مثلما توقف المراقبون بدهشة أمام قرار موسكو قبل وقت قصير بالاكتفاء بالمعارضة وعدم استخدامها حق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن الدولي القاضي برفع العقوبات المفروضة على قلب الدين حكمتيار، أحد أشهر أمراء الحرب والإرهاب وزراعة المخدرات الأفغان الذي قصفت جماعته كابول بوحشية في التسعينيات، وكان قبل ذلك مسؤولا عن مقتل المئات من الجنود السوفييت الغزاة، فإن الدهشة أصابت هؤلاء المراقبين مجدداً في الأسبوع الماضي حينما أيد المبعوث الخاص للكرملين إلى أفغانستان «زامير كوبولوف» دعوة حركة «طالبان» المتمردة إلى انسحاب القوات الأجنبية من هذا البلد المنكوب. إذ كيف لدولة عانت من الإرهاب، وتقول إنها ملتزمة بمقاتلة الإرهابيين أينما وجدوا، أن تؤيد دعوة حركة إرهابية حرقت الأخضر واليابس في أفغانستان، واحتضنت زعماء «القاعدة» والمتشددين من كل مكان- بما فيهم رعايا روس (شيشانيون تحديداً) ومواطنون من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق (أوزبك وطاجيك تحديداً) وهي تعلم علم اليقين أن ما تسعى إليه «طالبان»، بدعوتها إلى انسحاب القوات الأجنبية، هو عودتها إلى السلطة في كابول مجددا، وبالتالي ممارسة المزيد من الإرهاب ونشر الفوضى والتخلف واحتضان المتشددين من كل أرجاء المعمورة؟ ثم أين ذهب ذلك الموقف الغاضب الذي اتخذه الكرملين قبل مدة من عزم واشنطن على التفاوض مع ممثلي «طالبان» في الدوحة؟ لكن يمكن تفسير ما يحدث من غزل بين أعداء الأمس باستخدام النظرية القائلة «لا يوجد أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون في السياسة». وبعبارة أخرى إذا اقتضت المصلحة، فلا مانع من أن يكون عدو الأمس صديق اليوم والعكس بالعكس. لكن ما هي يا ترى مصلحة موسكو من دعم مواقف «طالبان»، بل الانفتاح عليها من بعد تجاهل ونفور طويلين؟ الإجابة يمكن استنباطها من تصريحات أدلى بها مؤخراً وزير الدفاع الأميركي «جيمس ماتيس» الذي أعرب عن قلق بلاده من تنامي العلاقات بين موسكو وقادة «طالبان»، علما بأن هذه التصريحات جاءت بُعيد تصريحين في نفس السياق، كان أولهما ما قاله قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال «جوزيف فوتيل» في جلسة استجواب أمام لجنة القوات المسلحة في الكونجرس الأميركي من أن موسكو باتت تدعم «طالبان» بالسلاح، وبمساعدات أخرى بهدف فرض واقع جديد في أفغانستان، وكان ثانيهما ما ذكره قائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال «جون نيكلسون» عن تزايد الاتصالات بين مسؤولي الكرملين وقادة «طالبان». غير أن الناطق باسم الخارجية الروسية سارع إلى نفي خبر دعم بلاده ل«طالبان» بالسلاح، لكنه لم ينف وجود اتصالات بينهما، مقدماً تبريراً غير مقنع لذلك تمثل في قوله «تتعلق الاتصالات مع طالبان بأمن المواطنين الروس العاملين على الأراضي الأفغانية». نستنتج مما سبق أن كل ما يجري له علاقة بحالة الشد والجذب القائمة حالياً بين واشنطن وموسكو، ومناكفة كل منهما للآخر على نحو ما كان يجري زمن الحرب الباردة القديمة، التي أجمع العالم على انتهائها بسقوط الاتحاد السوفييتي، لكنها عادت اليوم بحلة جديدة. كما يمكن القول إن موسكو باتت تتعامل فيما خص الشأن الأفغاني بمنطوق «عدو عدوي صديقي». فطالما أن الميليشيات «الطالبانية» تقوم بعمليات عسكرية وانتحارية ضد القوات الأميركية والغربية العاملة في أفغانستان أو ضد حكومة كابول المدعومة من واشنطن والغرب، فإنها تستحق الدعم لأنها تنفذ في الواقع أهداف موسكو المتمثلة في إذلال الأميركيين والأوروبيين الذين هبوا لحصارها ومقاطعتها بعد أحداث أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. وهي في الوقت نفسه تنفذ أهداف ثلاث دول أخرى هي إيران حليفة الروس في سوريا التي لا حاجة لنا لبيان عدائها للولايات المتحدة والغرب، والصين حليفة الروس في التصدي للاستراتيجيات الأميركية. بالإضافة إلى باكستان التي خلقت حركة «طالبان» ومكّنتها من الاستيلاء على السلطة عام 1996 وتتمنى عودتها منتصرة كي تقف في وجه النفوذ الهندي المتنامي في أفغانستان في ظل حكومة الرئيس أشرف غني ومن قبلها حكومة حامد كرزاي. ومن هنا لم يكن غريبا أن تقوم موسكو بترتيب مؤتمر رباعي قبل ثلاثة أشهر، شاركت فيه روسيا الاتحادية والصين وباكستان وإيران تحت يافطة تحقيق السلام والاستقرار في أفغانستان، فيما كان الهدف الأصلي منه وضع ترتيبات تسمح لموسكو بلعب دور الوسيط في الشأن الأفغاني أولاً، ثم استغلال هذا الدور للتحكم والتمدد الجيوسياسي في منطقة جنوب آسيا على حساب واشنطن وحلفائها. وبطبيعة الحال فإن التحكم والتمدد يشمل ضمن أمور أخرى منع وصول الإرهاب والمتطرفين وتجار المخدرات الأفغانية إلى التخوم الروسية وتخوم الحلفاء، ومنع تحولها إلى حاضنة جديدة لتنظيم «داعش» بعد هزيمته المتوقعة في العراق وسوريا. وجملة القول إن أفغانستان، التي هزمت القوات السوفييتية الغازية بأسلحة أميركية، فشبهها الكثيرون بفيتنام التي هزمت القوات الأميركية الغازية بأسلحة سوفييتية، باتت تحت مجهر الروس الذين يسعون للعودة إليها ضمن مخططاتهم وطموحاتهم في الشرق الأوسط بدءا بسوريا.