باتت أوروبا وأميركا ودول الغرب عموماً في مقدمة «مَهاجِر» المسلمين، ومأوى للملايين من شبابهم.. منذ أكثر من نصف قرن، غير أن المهاجرين فشلوا غالباً في الاندماج مع غير المسلمين في الحياة الأوروبية والحضارة الغربية، وفضلت قطاعات لا يستهان بها منهم حياة الانعزال والعيش في أحياء خاصة وتبني نماذج معيشية انطوائية تعاني التهميش والفقر. إن فشل المهاجرين المسلمين في الاندماج هناك ليس سببه كما يعتقد الكثيرون معاداة الأحزاب اليمينية لهم، أو ما يزعم الإسلاميون من «إسلاموفوبيا» وما يبثه ضدهم «اللوبي الصليبي - الصهيوني». فهذه كلها في أحسن الأحوال ردود فعل أثيرت ضد الكثير من المهاجرين ثم تركزت على المسلمين.. فلماذا؟ إن المسلم في اعتقادي يصل إلى الغرب بالطرق الشرعية أو غيرها من الأفكار والمشاعر والصور النمطية عن الغرب، وفي نفسه الكثير من العداء والاحتقار لقيم الغرب وأخلاقه، ولا شك أن بعض هذه المشاعر تقف حجر عثرة أمام اندماجه في المهجر الجديد كاندماج الآخرين، والتي تجعل حتى الجيل الثاني والثالث متعثراً كما نرى في الباكستانيين والأتراك والعرب وغيرهم. ولا يعني هذا بالطبع شمول كل المهاجرين بهذه السلبيات، فأوروبا وأميركا مليئة بنماذج الانصهار الناجحة والقدرة على العطاء والمواطنة الجيدة لمسلمين هاجروا إلى الغرب واستطاعوا حماية أنفسهم وأسرهم ومستقبل أبنائهم من القوى المعادية لهذا التحول داخل البيئة الإسلامية الغربية وخارجها. وتلعب بعض المفاهيم السياسية والاجتماعية والدينية الواسعة الانتشار في العالم العربي والإسلامي عن حضارة الغرب وثقافته، دوراً أساسياً في تعثر اندماج المهاجرين، فمن نظرة دونية إلى المرأة والأقليات غير المسلمة في دولته التي قدم منها، ومن شكوك سياسية في الغرب واعتبار الأوروبيين رموزاً للانحراف الأخلاقي والانحلال، ومن اعتبار أوروبا وأميركا في حال «انعقاد دائم» للتخطيط والتآمر ضد العرب والمسلمين.. إلى آخر ما هو معروف في هذا المجال، كما أن المهاجر حتى لو لم يكن هذا حاله، في حيرة وقلق بسبب تحديات البيئة والهوية الجديدة. «إن المهاجرين»، يقول الباحث د. مصطفى مرسي في كتاب قيم بعنوان «قضايا المهاجرين العرب في أوروبا» - من منشورات مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي 2010: «يجدون أنفسهم في أحوال كثيرة في حيرة بين التمسك بمقومات الهوية الأصلية ومتطلبات المواطنة الجديدة في مجتمعات الهجرة، وبين ممارسة حياتهم الخاصة، وفقاً لقيمهم وأعرافهم وتقاليدهم، ومتطلبات أشكال اندماجاتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية وضروراتها في المجتمعات الجديدة. كما يعاني المهاجرون في المراحل الأولى تعدد الأطراف المحليين والإقليميين الذين يتجاذبونهم، والذين يسعى بعضهم لتأطيرهم في بوتقات مذهبية أو عقائدية أو تنظيمية لا ترتضي منهم سواها، وهذا يؤدي إلى مزيد من النزاعات والصراعات بين المهاجرين أنفسهم» [ص48-49]. نحن نريد «عرب المهجر» عرباً مهما طالت «فترة الهجرة»، ولا يريد الإيرانيون من مواطنيهم في دول الغرب وبخاصة الولايات المتحدة أن ينسى أبناؤهم لغتهم الأم، ويعمد الباكستانيون أحياناً كثيرة إلى تزويج أولادهم وبناتهم من مواطنين مقيمين في بلادهم الأصلية وقراهم، وتنشط الأحزاب الإسلامية من كل لون في أحياء وأوساط المسلمين في المهجر، في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، يلتقطون العناصر الشابة الواعدة والرؤوس التي أينعت. ولا تعطي وسائل الاتصال وسهولة السفر الجوي والقنوات التلفزيونية المهاجرين فرصة حقيقية لشيء من الاعتزال والتخمر في الوطن الجديد والاندماج الكامل في ثقافته وإعلامه. ولكن هل الاندماج سهل، حتى لو تغلب المهاجر على كل العقبات؟ يعرِّف د. مرسي «الاندماج» بأنه الابتعاد في الموطن الجديد عن الانعزالية، «والتخلي عن أساليب الحياة الاجتماعية والسياسية السلبية وتحويلها إلى سلوكيات إيجابية بمشاركات نشيطة في الحياة العامة، وتكوين جماعات مصالح وضغط، تلعب دور الجسر بين المجتمعات التي تعيش فيها الآن، مع المجتمعات الأصلية». وقد يجد المهاجر نفسه، حتى لو كان مستجيباً في وضع متناقض حسب الدولة الأوروبية التي هاجر إليها، فالاندماج في بريطانيا مثلاً يقوم على التعددية الاجتماعية وحتى اللغوية، وهو مفهوم يقوم على إتاحة مساحة للتعبير لكل جالية أو عرق، لكي يحافظا على ثقافتهما في إطار القانون.. ولهذا يعتبر البعض النموذج البريطاني «نصف استيعاب»! ويضيف د. مرسي (ص61): «وأما الاستيعاب (الانصهار) فيصبح المهاجر - في إطاره - جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الذي هاجر إليه، ويعيش فيه، ويعده وطنه، وينشغل بهمومه ومشكلاته، وينفصل تماماً عما يحدث في الوطن الأم، وعن ماضي الآباء والأجداد وتاريخهم وثقافتهم، كما يسعى لإقامة علاقات اجتماعية وعائلية خارج مجموعته الإثنية التي ينتمي إليها، بل يسعى لفك ارتباطاته وعلاقاته بها، لأنه يرى فيها عائقاً دون اندماجه وانصهاره الكاملين في المجتمع الجديد، وهذا النمط تتبناه فرنسا». وقد نتساءل، هل تتفاوت الشعوب العربية وشعوب العالم عموماً في الاستعداد للهجرة والاندماج؟ وسنرى الجواب في مقال قادم!