ذات يوم من أوائل القرن العشرين تحدث الشيخ «أمين الخولي»، الأديب المصري وأحد كبار حماة اللغة العربية مشيراً إلى إشكالية الأفكار، لا سيما إذا كانت مغلوطة، وكارثيتها حال أضحت مسمومة بالقول: «إن الأفكار حين تجد في العقل خواء، وتصادف في الدماغ خلاء تعشش وتستقر، ويصعب انتزاعها من العقول مهما كانت درجة زيفها، ويزداد استقرارها بالتكرار حتى تصبح الفكرة الخاطئة عقيدة ثابتة». لماذا نستدعي هذه العبارات في هذا التوقيت؟ مؤكداً أن السبب هو ما شهدته مصر من تفجيرات الأيام القليلة الماضية، ما يدعو لتساؤل مؤداه: «ما الذي يحتاج إليه العالم العربي لمواجهة الإرهاب؟». حكماً الإرهاب هو سلوك قائم على أفكار كاذبة ومغشوشة، أدت بصاحبها للغلو والتطرف، وقد أذكى الشطط المحتل الغربي بداية، ومع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، تضاعفت النكبة الفكرية، واشتعلت أفكار المقاومة المسلحة، وقد سار بعضها على دروب القومية، فيما ذهب فصيل آخر إلى الإسلاموية. كان غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان فرصة ذهبية للولايات المتحدة لاستنهاض مغشوش لمقدرات الأمة الإسلامية، وتكررت المأساة بعد غزو العراق، فخلفت المقاومة الإسلامية في الحالة الأولى القاعدة وتبعاتها، وأسفرت في النموذج الثاني عن داعش وأخواتها. انتهت حرب أفغانستان، تاركة وراءها مدرسة في الإرهاب من جراء الذين عرفوا بالعائدين من أفغانستان، وها نحن إزاء كارثة يتامى «داعش» التي تتفرق جموعها في سوريا والعراق، لتسعى إلى مكامن شر جديدة لا سيما في ليبيا، وبعض المحاولات اليائسة في شبه جزيرة سيناء، وليفاجأ العالم، بأننا نواجه أكاديمية لفعلة الشر، وسكان تخوم الإثم. المسألة في واقع الحال ليست مصرية أو عربية فقط، ذلك أن الأفكار لها أجنحة سيما في عالم تلعب فيه وسائط التواصل الاجتماعي، عمود الخيمة، لاتصال البشر بعضهم ببعض، وبغض النظر عن سلبية أو إيجابية ذلك الاتصال. تحول الأمر إلى مسألة «دوجمائية»، بمعنى شأن عقدي لا يقبل المساومة، وعليه لا يتزحزح الاعتقاد هنا من العقل الموبوء، إلا مع خروج الروح، حتى وإن خرجت بالأحزمة الناسفة كما رأينا في تفجيري الكنيستين على أرض مصر المحروسة. ولد الإرهاب في العالمين العربي والإسلامي على نحو خاص من رحم الحركات الإسلامية المتطرفة، والتي وصفها عالم الجغرافيا الراحل الكبير «جمال حمدان»، بأنها «وباء دوري» يصيب العالم الإسلامي في فترات الضعف السياسي أمام العدو الخارجي، وهي نوع من التشنج الطبيعي بسبب عجز الجسم عن المقاومة. على أن قائل يقول إن العنف قديم قدم البشرية، وعليه فالإرهاب الملازم له ليس مسألة طارئة، وهو قول وإنْ كان به شيء من الصحة تاريخياً، إلا أنه يفوته معطيات عصرانية جديدة جعلت من الاعتراض العنيف والمسلح والمبني على رؤية «ملاك الحقيقة المطلقة»، ظاهرة أشد هولاً من طاعون القرون الوسطى. والثابت أن أحداً لا ينكر أنه ضمن الأسباب التى دفعت الشرق الأوسط على نحو خاص في طريق العنف، كان الاحتلال الأجنبي، وفي ظله ولدت جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر برعاية بريطانية، وبعدها بات العنف وباءً، وهناك من الدول من يستخدم الإرهاب كمخلب قط لتحقيق أهداف بعينها، واستخدم بالفعل في الأعوام الأخيرة التى عرفت باسم «الربيع العربي» أسوأ استخدام، وباتت علامة الاستفهام: هل المجابهة الأمنية هي الحل الوحيد؟ المؤكد أن الرهان على المواجهة الشرطية أو الأمنية هو رهان قاصر، رغم أهميته في إطفاء النيران المشتعلة في التو واللحظة، لكن يبقى الأمر في حدود رد الفعل الأول عندما تواجه الأفاعي، أما الفعل الأكبر والأضخم فهو الانصراف إلى العوامل التى جعلت من حديقة البيت بؤرة جذب لها، ومن سور الحديقة ثغرة كبيرة. تنامي الإرهاب عربياً في الآونة الأخيرة يستدعي حلولاً معرفية وإدراكية من خارج المربعات التقليدية، التي تم اللجوء إليها في العقود الماضية، وفي مقدمتها مساءلة الفشل العربي في الوصول إلى الدولة العربية الحديثة، التي عمادها فكر المواطنة، وآلياتها تتمحور حول صون كرامة الإنسان لا إهدارها، وطريقها يبدأ من عند التعليم، واستمراريتها يزخمها إعلام صادق يبغي التعمق والجوهر، لا التمدد والتوسع المسطح، كما كان يقول «شوبنهور». هل حان الوقت لتفعيل «الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب» التي وقعها وزراء الداخلية العرب نهار الأربعاء 22 أبريل 1998 في مقر الجامعة العربية بالقاهرة وتتضمن 42 بنداً؟ تضيق المساحة عن سرد البنود، غير أنه وفي كل الأحوال يمكن القول إنها توفر الحد الأدنى من التعاون الأدنى لمواجهة الخطر الداهم الذي لن يوفر أحداً من ضرباته الشيطانية، وآثاره الجهنمية. حسنا فعلت القيادة السياسية في مصر بقيادة الرئيس السيسي بتشكيل مجلس أعلى لمحاربة الإرهاب، وجيد للعرب أن يتم التنادي الآن لبلورة جماعة إدارة أزمة من خبراء على أعلى مستوى أمنيين وعسكريين، علماء اجتماع وأجناس واقتصاديين، مفكرين وإعلاميين، مسيحيين ومسلمين، هؤلاء ربما يعادلون الفريق الأميركي الذي شكله الرئيس ريجان في أوائل ثمانينيات القرن الماضي لتصحيح مسار البلاد، وخلصوا إلى التقرير الشهير «أمة في خطر». أزمة الإرهاب اليوم تتمثل في أنه يسعى لشق النسيج المجتمعي الواحد، ويعمق الفرقة بين أبناء الأمة، يقيم الحواجز والجدران، ويهدم الجسور، وفي هذا الكارثة وليست الحادثة، وكل يوم يمر دون مواجهة حقيقته بأبعادها المختلفة تدخل قيمة الأمة دائرة الانحدار ثم الانهيار. *كاتب مصري