ما بين اجتماعات آستانا ومؤتمرات جنيف يمضي الوقت والصراع السياسي والعسكري في سوريا، ويطوي أيامه وسنواته الواحدة فيها تلو الأخرى، لكي يدخل عامه الثامن دون أن يلوح في الأفق ما يشير إلى وجود حلول قريبة لتلك الصراعات. هذه الحالة تثير لدى المراقبين وعلماء السياسة الشكوك العميقة حول وجود فعلي لما يسمى بالنظام الدولي على الطريقة الغربية، الذي ساد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أولاً والذي سمي بنظام القطبية الثنائية، ثم بعد ذلك ما سمي بنظام القطب الوحيد، الذي برز منذ انتهاء الحرب الباردة ومستمر إلى هذه اللحظة. الحرب في سوريا خلفت دماراً ليس له مثيل في التاريخ البشري سوى الدمار الذي خلفته الحروب العالمية التي دارت رحاها في القرن العشرين، فعدد القتلى فاق الستمائة ألف والجرحى والمشردين والمهجرين يحصون بالملايين والبنية التحتية السورية إلى عدم، والمجتمع إلى تفكك، واقتصاد الدولة المعتاد اختفى من الوجود. ويُضاف إلى ذلك أن المزجوج بهم في سجون النظام والمحتجزين لدى الفصائل المتقاتلة والمنظمات الإرهابية كـ"داعش" وغيرها، والعديد منهم قضى نحبه فيها، يعدون بعشرات الآلاف. وأخيراً فإن سيادة الدولة وحرمة المجتمع منتهكة من قبل روسيا وإيران و"حزب الله" اللبناني و"الحشد الشعبي" العراقي وغيرها الكثير. ما يحدث في سوريا لم يأت من فراغ، فهذا القطر العربي ذو النظام الشمولي تأثر كثيراً بما يدور حوله من فوضى عارمة منذ بداية 2011، ورغم أن النظام البعثي - العلوي بقي صامداً في السلطة لردح طويل من الزمن يربو على أربعة عقود أو نيف، إلا أن ما ذكره رأس النظام في بداية اندلاع الفوضى في بعض البلاد العربية الأخرى بأن نظامه محصن ضد التأثيرات السلبية كان خاطئاً في المطلق. وضرب من فكر التمني الذي لم يغنه شيئاً عن اندلاع الثورة في سوريا. ولا نعلم حقيقة بأن النظام ورئيسه كانوا مدركين بما كان يدور في البلاد أم لا، أم أنهم تجاهلوا المعاناة الجماعية التي تشارك فيها السوريون مع نظرائهم الذين خرجوا إلى الشوارع في الدول العربية الأخرى وارتد صداها في سوريا. وما يدور حالياً في سوريا له جذوره العميقة، فعلى أقل تقدير أن سوريا كان قد مر عليها عند العام 2011 عقد من التحول السريع الذي تزامن مع تغيرات اجتماعية - اقتصادية رئيسية بما في ذلك الجفاف الذي ضرب أنحاء متفرقة من البلاد، وهجرة السكان من الريف إلى المناطق الحضرية، وتكدسهم في مناطق السكن العشوائي غير الرسمي، والبطالة الحقيقية والمقنعة، ونشاط السوق السوداء، والتهريب من الضرائب وتآكل رهيب وتسوس في شبكة السلامة الاجتماعية. ومما لاشك فيه أن لكل ذلك تأثيراته السلبية التي زادها سوءاً نمط التحرير الاقتصادي الانتقائي وربما العشوائي الذي انتج جيلاً من السوريين الذين أصبحت الحياة الاجتماعية والاقتصادية المستقرة والحصول على وظيفة أو مصدر للدخل أمور بعيدة المنال، وفي جميع مناطق البلاد بما في ذلك دمشق والمدن الحضرية الكبرى. وفي الوقت نفسه جاء النظام البعثي - العلوي إلى السلطة عام 1970 إثر انقلاب عسكري قاده ونفذه حافظ الأسد الذي بقي قابضاً على السلطة حتى وفاته عام 2000، ثم خلفه في السلطة ابنه بشار. هذا النظام ظل قابعاً في السلطة متمسكاً بها بكل قوته، خانقاً جميع الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يترك مجالاً لأحد آخر عن طريق إخماد وقمع جميع صيغ المعارضة الجماعية المنظمة والفردية، هذا بالإضافة إلى معاداته لعدد من الدول العربية الأخرى لأسباب غير واضحة أو مفهومة ليس لها تفسير سوى الابتزاز. تلك المنظومة من القمع السياسي والاجتماعي المنظم والمستويات الاجتماعية - الاقتصادية المتردية، وتفشي تأثيرات الفوضى العربية، ومعاداة الجيران، خلقت في تقديري المحتويات الفورية التي بدأت بها المأساة السورية الحالية التي لا يلوح لها في الأفق القريب حلول، وقد تبقى وهي تطحن في العظم السوري لفترة لا يستهان بها من الزمن. إن الحلول بيد السوريين وحدهم، وتدخل روسيا وإيران "حزب الله" اللبناني وغيرهم من الأطراف الطامعة في شيء من الكعكة السورية لن تفيد السوريين في شيء، بل ستزيد من مآسيهم والشواهد على ذلك كثيرة جداً. *كاتب إماراتي