السؤال موجّه إلى روسيا والصين، وإلى المجتمع الدولي كافةً، ليس بعد المقتلة المروّعة في «خان شيخون» فحسب، بل منذ الجريمة الأولى في معضمية الشام والغوطة الشرقية (أغسطس 2013) حين عوقب السلاح ولم يُعاقب القاتل، فأصبح موقناً بأنه يستطيع تكرار جريمته، وقد فعل عشرات المرّات، وبأن حلفاءه يؤيّدون حقّه في قتل شعبه ويحصّنونه من المساءلة والمحاسبة. الضربة الأميركية محددة الهدف قد لا تردع النظام السوري، بل قد لا تردع حلفاءه الروس أو الإيرانيين إذ يطلقون عبره رسائل إلى الولايات المتحدة. وما يبرّر هذا السؤال أنه عندما لا يعود استخدام هذا السلاح محرّماً ولا مجرّماً، لأن روسيا والصين تعطّلان القانون الدولي، فلا بدّ أنهما تقترحان على العالم «شرعنة» هذا السلاح، لا لشيء، بل لأن حليفهما استخدمه، وليس للاعتبارات الإنسانية أو الأخلاقية أن تمنعهما من حمايته. قبل أربعة أعوام، قيل إن قتل أكثر من ألف وأربعمائة إنسان بالغازات السامة كان «اختباراً» لـ«خطّ أحمر» حدّده علناً الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وقد استجاب فعلاً باستعراض عسكري - سياسي استعداداً لتوجيه ضربة إلى النظام السوري. كان أوباما آنذاك في شبه قطيعة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب منح موسكو موظف الاستخبارات الأميركية المنشق إدوارد سنودن لجوءاً لديها، لذلك قيل أيضاً إن روسيا هي التي شجّعت نظام بشار الأسد على القصف بالكيماوي استدراجاً لرد الفعل الأميركي. لم يدم الاستعراض الأوبامي طويلاً، بل أفضى سريعاً إلى لقاءات مكثّفة بين وزيري الخارجية جون كيري وسيرجي لافروف وصولاً إلى اتفاق يجبر نظام دمشق على تسليم مخزونه الكيماوي ليتولّى خبراء منظمة حظر الأسلحة الكيماوية تدميره، وأصبح اتفاقهما قراراً في مجلس الأمن يحمل الرقم 2118 متضمّناً نص «بيان جنيف»، الذي يطلب إنشاء هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة كخطوة أولى على طريق حل سياسي للأزمة السورية، بل إن القرار يؤكّد معاقبة النظام (تحت البند السابع) إذا كرّر استخدام ذلك السلاح. لم يمتثل النظام للمضمون السياسي للقرار، بل من الواضح أنه لم يسلّم كل مخزونه، أو أنه استطاع بناء مخزون جديد بمعرفة حليفيه الروسي والإيراني، بدليل أن الغازات واصلت الظهور بين حين وآخر في هجمات شتّى أمكن للمحققين الدوليين أن يحصروا ثلاثاً منها ويوثّقوها في تقرير قدّموه قبل نحو عام وحدّدوا فيه مسؤولية النظام (ومسؤولية تنظيم «داعش» عن واقعة واحدة). لكن الروس، الذين أصبحوا على الأرض السورية ولا يتقبّلون إشكالية معاقبة نظام منحهم «شرعيته» للتدخّل، بادروا إلى رفض استنتاجات المحققين وأخضعوها لتمحيص طويل من دون أن يتوصّلوا إلى دحضها، فلم يبقَ أمامهم سوى السلاح المطلق غير القابل للجدل: الإنكار، إنكار كل شيء واعتبار الوثائق ملفّقة والأدلة مشكوك فيها والمحققين غير محايدين، وقد ساعدتهم الإدارة الأميركية السابقة على تمييع تحرّك فرنسي - بريطاني لتفعيل المادة 21 من القرار 2118 لمعاقبة النظام. بعدما تغيّرت الإدارة في واشنطن، أمكن في 28 فبراير الماضي طرح مشروع قرار في مجلس الأمن فاستخدمت روسيا والصين حق «الفيتو» لمنع إصداره. كان واضحاً على الفور أن تعطيل العقاب يسوّغ الجريمة، وأن عدم الاعتراف بالجرم ينفي مخالفته للقانون، أي أنه يشرّعه. بعد أقلّ من أسبوعين كان النظام يستخدم الغازات بنسبة محدودة في قتاله ضد الفصائل في الغوطة الغربية المحاذية لدمشق ولم يكن هناك ردّ فعل خارجي، لكنه بعد بضعة أسابيع استهدف المدنيين في خان شيخون. لذلك قال المندوبون الفرنسي والبريطاني والأميركي لنظيريهم الروسي والصيني إن هذه الجريمة نتيجة مباشرة لـ«الفيتو» الأخير، ولذلك أيضاً قال دونالد ترامب إن الجريمة تجاوزت «خطوطاً كثيرة»، ممهداً لردٍّ أميركي بعد فشل العمل الدولي الجماعي. عشية جريمة خان شيخون كان مترو سانت بطرسبورغ مسرحاً لاعتداء إرهابي ربطه البعض بالتدخّل الروسي في سوريا، لكن موسكو سخّفت هذه الفرضية. وفي سعيها إلى تبرئة نظام دمشق اتهمت موسكو ضحايا الغازات وليس من أطلقها، معتبرةً أن مشكلة «الإرهاب الكيماوي» باتت قائمة. على افتراض أنها محقّة ودقيقة في هذا التقدير، ألا ينبغي عليها أن تتذكّر أن النظام هو مَن استخدم أولاً هذا السلاح، وأنها أبدت كل الحرص على إفلاته من العقاب؟ وماذا عن تساؤلات كثيرة عن أن جريمة «خان شيخون» أرادتها روسيا «اختباراً» آخر لإدارة أميركية تأخّرت في التقارب الموعود معها؟