تحتل مجموعة الأمراض المعروفة بالأمراض السرطانية، مرتبة متقدمة على قائمة أسباب الوفيات، حيث تعتبر مسؤولة عن 13 في المئة من جميع الوفيات بين أفراد الجنس البشري، وهو ما يترجم إلى حوالي 8 ملايين وفاة سنوياً، على أساس أن عدد الوفيات البشرية السنوي يبلغ 58 مليون وفاة. وعلى عكس الاعتقاد الشائع، فالسرطان ليس مرضاً واحداً، بل هو حزمة متنوعة من الأمراض، تشترك في صفة مميزة، هي نمو وتكاثر الخلايا بمعدلات أعلى بكثير من المعدلات الطبيعية، ومن ثم غزوها وتدميرها للأنسجة والأعضاء المحيطة، مما يسبب الوفاة. وتتنوع وتتعدد الأسباب أو عوامل الخطر التي ترفع من احتمالات إصابة المرء بالسرطان، مثل التركيبة الوراثية، ونوعية الغذاء ونمط الحياة، والاختلالات الهرمونية، والتعرض للأشعة المتأيِّنة، والعدوى بأنواع محددة من الفيروسات، والتعرض لعوامل فيزيائية أو كيميائة مسرطنة، كما هو الحال مع التدخين مثلاً. وعلى رغم أن مجموعة كبيرة من عوامل الخطر المؤشرة لاحتمالات الإصابة بالسرطان، أصبحت معروفة وموثقة، إلا أنه لا يزال الكثير منها أيضاً مجهولاً، ولا زالت الميكانيزيمات التي ينتج عنها السرطان غير معروفة إلى حد كبير. وأحد عوامل الخطر التي ارتقت إلى مستوى الشبهات مؤخراً هو تناول المضادات الحيوية لفترات طويلة، وهذا، حسب دراسة نشرت في العدد الأخير من إحدى الدوريات الطبية المتخصصة في أمراض الجهاز الهضمي، يمكنه أن يؤدي إلى ظهور زوائد لحمية في القولون، قد تتحول لاحقاً إلى أورام سرطانية. فمن خلال تحليل البيانات الصحية والتاريخ المرضي لأكثر من 16 ألف ممرضة، مشتركات في دراسة طبية طويلة الأجل، اكتشف الباحثون أن من كن يتناولن مضادات حيوية لمدة شهرين أو أكثر خلال العقدين الثالث والرابع من العمر، ارتفعت معدلات إصابتهن بالزوائد اللحمية في القولون خلال المراحل اللاحقة من العمر، مقارنة بمثيلاتهن اللاتي لم يتناولن المضادات الحيوية لفترة طويلة، وارتفعت هذه المعدلات بدرجة أكبر إذا كان تناول المضادات الحيوية لفترة طويلة قد حدث خلال العقدين الرابع والخامس من العمر. إلا أن هذه الدراسة لم تبحث في عدد الزوائد اللحمية التي تحولت لاحقاً إلى أورام سرطانية، ولذا يقر القائمون على الدراسة بأن نتائج بحثهم هذا لا تثبت وجود علاقة مؤكدة بين تناول المضادات الحيوية وبين الإصابة بسرطان القولون، كما يقرون أيضاً بأن البكتيريا التي تطلبت في الأصل العلاج بالمضادات الحيوية، ربما تكون هي السبب وليس العلاج. وتظهر هذه الدراسة مرة أخرى، أهمية الدور الذي تلعبه بكتيريا الأمعاء في الحفاظ على الصحة العامة، وفي خفض أو رفع احتمالات الإصابة بالأمراض المختلفة. فمع تناول المضادات الحيوية، وخصوصاً لفترات طويلة، يختل التوازن الحيوي بين أنواع وأصناف البكتيريا المستوطنة للأمعاء، وعدد وانتشار كل صنف منها، وهو ما قد تكون له تبعات صحية قصيرة وطويلة الأمد. وتقع بكتيريا الأمعاء ضمن المجتمع الميكروبي الأوسع الذي يستوطن داخل وخارج الجسم البشري، ويطلق عليه اسم الميكروبيوم. فمن الحقائق الغريبة والمثيرة في عالم الطب -والمكتشفة حديثاً نسبياً- أن عدد الميكروبات التي تقطن الأجزاء والأماكن المختلفة من الجسم البشري، يبلغ عشرة أضعاف عدد الخلايا البشرية. وبخلاف التفوق العددي لهذا «المجتمع» الميكروبي، والذي يتراوح وزنه ما بين 200 إلى 1400 جرام، ينظر البعض لمليارات الميكروبات تلك على أنها عضو بشري جديد، يؤثر في العمليات الحيوية والفسيولوجية، داخل المنظومة الكاملة للجسم البشري، مثله في ذلك مثل الأعضاء الأخرى، كالقلب، أو الرئة، أو الكليتين، ويلعب أيضاً دوراً مهماً في الصحة والمرض. وعلى ما يبدو كذلك، أن دور بكتيريا الأمعاء لا يقتصر فقط على احتمالات الإصابة ببعض الأمراض، وإنما أيضاً بمدى فعالية الأدوية والعقاقير الطبية التي تستخدم لعلاج الأمراض السرطانية، أو هذا على الأقل ما تشير إليه نتائج دراسة تم خلالها فحص المحتوى الميكروبي لأمعاء ثلاثة وعشرين مريضاً أصيبوا بالسرطان، ونجحت الأدوية والعقاقير المستخدمة لعلاجهم في منحهم الشفاء الكامل. وفي الوقت نفسه، تم فحص المحتوى الميكروبي لأمعاء أحد عشر شخصاً آخرين، أصيبوا أيضاً بالسرطان، ولكن فشلت الأدوية والعقاقير الطبية المستخدمة لعلاجهم في إنقاذ حياتهم. وبمقارنة المحتويين البكتيريين لأمعاء المجموعتين، وجد العلماء فارقاً هائلا في نوعية وعدد البكتيريا، بشكل وصفوه على أنه درجة اختلاف مشابهة لدرجة الاختلاف بين الليل والنهار. ويعتقد العلماء أن هذا الفارق ربما يكون نتيجة تفاعل بكتيريا الأمعاء مع المكونات المختلفة لجهاز المناعة، من حيث التنشيط والفعالية، وهو ما إذا ثبت يمكن أن يوظف ضمن الأسلوب العلاجي الحديث للأمراض السرطانية، المعروف بالعلاج المناعي.