مضى اليوم أربعة عشر عاماً من حين بدأت وزارة الداخلية السعودية برنامجها لإصلاح الموقوفين في قضايا التطرف. وقد أخذت هذه التجربة نصيبها من الإعلان والإعلام والنقاش حول ثمارها نجاحاً وإخفاقاً، وقد سنحت لي الفرصة مرتين في سنوات متباعدة بزيارة سجن الحائر جنوب الرياض وسجن الطرفية في القصيم، وبزيارتين اثنتين إلى مركز محمد بن نايف والحديث مع مديري المؤسستين. في زيارتي الثانية مع ثلاث باحثات زميلات لي في مركز «المسبار» التقيت بمجموعة من المستفيدين من برنامج الرعاية منهم تسعة مستفيدين من العائدين من جوانتانامو من الجنسية اليمنية. وكنت محظوظاً بأنني تمكنت مرات عديدة عبر سنوات من الاجتماع بالمسؤولين في وزارة الداخلية عن مكافحة الإرهاب، والمعنيين بالبرامج التأهيلية. كما أنني تمكنت مرتين من لقاء الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين في المركز، وأتيح لي لقاء عابر خاطف مع اثنين من المعنيين بالجانب الفكري والديني. كان هذا الجانب هو الأكثر غموضاً حسب تجربتي. ولا يزال حتى الآن. في التفاصيل المثيرة لقصة كتبتها الصحفية السعودية فضيلة الجفال لم تنشر بعد، هو أنه للمرة الأولى تُكْشَف تفاصيل دقيقة عن برنامج مناصحة الموقوفين في قضايا التطرف والإرهاب من السعوديين من أتباع المذهب الشيعي. لقد بقي هذا الجانب لسنوات بعيداً عن الأضواء، وكنت في زيارة سابقة إلى القطيف عام 2013 التقيت بواحد من المفرج عنهم ممن تورطوا في المسيرات التي قام بها مجموعات من أبناء العوامية، إثر الأحداث التي عمت العالم العربي في 2011، استجابة لما وُصف بالحراك الشيعي في البحرين. وقد حكى لي فيها جوانب مقتضبة مما تناولته بالتفصيل هذه القصة التي بين أيدينا. وقد تمكنت المملكة العربية السعودية من احتواء الاضطرابات في القطيف، والقبض على عشرات من المتورطين في أحداث العنف التي ذهب ضحيتها رجال أمن ومدنيون أبرياء، وأتلفت جراءها ممتلكات، واختطف فيها قاضي دائرة الأوقاف والمواريث في القطيف محمد الجيراني الذي لا يزال مجهول المصير حتى هذه اللحظة، وعاشت القطيف لفترات متقطعة أجواء مخيفة، تسببت بقلق كبير من قبل أهالي المدينة ووجهائها من نتائجها السلبية على مجتمعهم. إثر هذه المشاكل الأمنية وبعد دراسة عن دوافعها والمناخ الذي تسبب ببروزها على السطح، بدأت وزارة الداخلية برنامجها الخاص بتأهيل مواطنيها الشيعة ممن تورطوا في الإرهاب أو اعتنقوا الأفكار المتطرفة. لسنوات طويلة كانت لدي شكوكي بأن الرؤية التي يقوم عليها الجانب الشرعي في لجان المناصحة تتلخص بالتالي: «قدِّم جرعة متوسطة من التطرف تمكنك من تأهيل إرهابي وردعه عن سفك الدماء، وحماية المجتمع منه». لكن هذه الفكرة التي تبدو ساخرة، لم تكن مبنية على اطلاع مباشر على تفاصيل ما يقدمه المختصون في دوراتهم أو في لقاءاتهم الشخصية مع الموقوفين. وكنت أحياناً أتهم نفسي وأرجع هذه الفكرة إلى خصوصية تجربتي في التحول الفكري الذي عشت مخاضه لسنوات عديدة. قبل 19 عاماً كنت واحداً من الموقوفين إثر تفجيرات العليا نوفمبر 1995، ولم تكن برامج المناصحة قد وجدت حينها. وللحديث بقية. وفي زيارتي الأخيرة منتصف شهر مارس الماضي، أهدى إليّ مدير مركز محمد بن نايف اللواء الدكتور ناصر المحيا نسخة خاصة من كتاب يتناول فيه مؤلفه الحجج والدعاوى الدينية والمسوغات الشرعية للإرهابيين معتنقي الأفكار المتطرفة. وقد كانت تلك منه خطوة جريئة نابعة من ثقة بأنني أدرك جيداً المناخ الاجتماعي والديني والثقافي الذي نشأ فيه المستفيدون من برامج التأهيل، وما يصفه السعوديون بالخصوصية التي يجب أن تراعى في تأهيل المتطرفين. وللحديث بقية.