كان لدى الاتحاد السوفييتي السابق علماء أفذاذ في الرياضيات والعلوم والهندسة، ولا تزال أسماء علماء، مثل «أندريه كولموجروف» و«ليف لانداو»، تُذكر بإجلال في الدوائر التكنولوجية الروسية. بل إن روسيا تفوقت على الولايات المتحدة في الفضاء مرتين، ولفترة من الوقت، كان لديها أفضل الصواريخ والطائرات الحربية في العالم. وعلى رغم ذلك، في ثمانينيات القرن الماضي، كان المواطنون الروس يصطفون في طوابير للحصول على الخبز! والمغزى من هذه المقدمة هو أنه من دون مؤسسات فاعلة، لا يمكن لأي اقتصاد أن يُترجم التكنولوجيا إلى ثروة، وخبراء الاقتصاد يحبون القول إن التكنولوجيا هي أساس الإنتاجية في الأمد الطويل، ولكن بالنسبة للمواطنين في الاتحاد السوفييتي السابق، وكثير من الدول الأخرى التي تعاني خللاً إدارياً، لم يتحقق ذلك الأمد الطويل أبداً. وإذا رغبت أية دولة في زيادة إنتاجيتها، فلابد لها من أن تولي بعض الاهتمام لكيفية إدارة مؤسساتها، وعلى سبيل المثال، كيفية عمل الأسواق، وتنظيمها، وكيفية إبرام العقود وتعزيزها. ولعل من المشكلات المرتبطة بـ«كيفية» إدارة المؤسسات، صعوبة إدراك نقاط الخلل فيها، على النقيض من المشكلات المرتبطة بـ«الكم». وعلى رغم ابتكار تدابير متنوعة لتحسين مناخ العمل، إلا أن لقليل من هذه التدابير قدرة تنبؤية، بل إن مجرد محاولة قياس الأعباء التنظيمية لأية دولة تبدو مهمة شاقة، في ضوء كثرة التنظيمات والقوانين. ولذا، نضطر إلى الاعتماد على مجموعة من الدلائل المشفوعة بالقرائن، والمراقبة والحدس. وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، انتشر الحديث عن «تصلب الشرايين الاقتصادية للدول الأوروبية»، وفي تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، اعتبر خبراء الاقتصاد أن اليابان تواجه «الخراب»؛ إذ كان هناك شعور بأن الأمور لا تمضي على ما يرام، وشعور عميق بأن المؤسسات الوطنية باتت متحجرة ولا تستطيع التكيف مع المشكلات الأكثر إلحاحاً. ومع بداية العقد الجاري، جاء الدور على الولايات المتحدة لتعاني هي الأخرى نوبة من «تصلب الشرايين الاقتصادية». فارتفعت تكاليف كل شيء من الإنشاء إلى الرعاية الصحية والتعليم، لتلتهم ميزانيات الأميركيين، مع زيادة تكاد لا تُذكر في الإنتاجية! وينفق الأميركيون على الرعاية الصحية أكثر بكثير من نظرائهم في أوروبا والدول الآسيوية، ويحصلون في المقابل على خدمة ذات جودة مماثلة، كما صعدت أيضاً الإيجارات في المناطق الحضرية بدرجة دفعت كثيرين منهم إلى الخروج من المدن. ويبدو أن الهدف من قوانين وتنظيمات جديدة كثيرة هو الحفاظ على الوظائف الموجودة أكثر من تنشيط الأسواق للعمل بفاعلية أكبر. وقد أدت زيادة إجراءات التراخيص المهنية إلى إضعاف المنافسة، وانتشرت عقود التوظيف التي تحرم الموظفين المتميزين من القفز إلى درجات وظيفية أعلى للحاق بمنافسيهم. وزاد التركيز الصناعي، وفي الوقت ذاته، تراجع نشاط ريادة الأعمال، وترهلت الشركات الأميركية، وباتت أقل تنافسية وأكثر تشبثاً بمواقفها. وأضحت روح «التدمير البّناء»، الذي كان يميز قطاع الأعمال في الولايات المتحدة ضرباً من الماضي. ويبدو أن المجتمع والثقافة الأميركيين يعانيان أيضاً، مع ارتفاع معدلات الوفيات بين الأميركيين البيض، وعزوف الطبقتين المتوسطة والفقيرة عن الزواج. وتراجع مستويات المشاركة المدنية، واجتياح الإدمان على المخدرات البلاد. ويزعم بعض المفكرين أن الشباب الأميركي قد سقط في براثن حالة الرضا الخطيرة، وفي هذه الأثناء، تصدعت الثقة في الصناعة والحكومة والمؤسسات من كافة الأنواع! وفي مثل هذا المناخ، سيكون من الصعب جداً على الولايات المتحدة أن تشقّ طريقها نحو تحقيق نمو أسرع في الإنتاجية. ولن تجدي التطورات التكنولوجية كثيراً في إثراء الدولة إذا ارتفعت التكاليف، وتركزت الصناعات، وتراجع النشاط، وحدث خلل اجتماعي، وانتشرت القوانين الحمائية، وتصدعت الثقة، وحال الاستقطاب السياسي دون ترجمة الابتكارات الجديدة إلى ثروة واسعة النطاق. وعلى رغم ذلك، يتجاوز الخطر الحقيقي الركود الأميركي. فلا يبدو أن أوروبا واليابان قد تعافيتا بشكل كامل من فترات «التصلب» السابقة (وإن كانت اليابان قد أحرزت بعض التقدم على الأقل، مثلما فعلت ألمانيا). ومكمن الخطر الحقيقي في أنه إذا واجهت كافة الدول المتقدمة في العالم الركود في الوقت ذاته، فإن العالم ذاته سيتوقف؛ ذلك أن الدول الغنية توفر الطلب الضروري على منتجات الدول النامية، وتوفر الاستثمارات اللازمة لمساعدتها على النمو، وهي المسؤولة أيضاً عن الاستثمار في الابتكار للدفع بحدود المعرفة البشرية. وإذا ما تصلبت شرايين اقتصاد الولايات المتحدة والدول المتقدمة في أوروبا وشرق آسيا، فسيقع على عاتق الصين «المتباطئة» دفع عجلة الاقتصاد العالمي. وقد كان هناك أمل لدى بعض الدوائر أن يفي الرئيس دونالد ترامب بوعد حملته الانتخابية واستعادة التنافسية والكفاءة للاقتصاد الأميركي، غير أنه وإن كان لا يزال في بداية رئاسته، إلا أنه لم يتجسد أي تحرك في ذلك الاتجاه حتى الآن. ويكاد لا يكون هناك حلّ واضح في الأفق، ولكن كما كانت الحال مع أوروبا واليابان في تسعينيات القرن الماضي، فالخطوة الأولى المهمة هي الاعتراف بصعوبة المشكلة! يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»