بدلاً من نشر العلم والتنوير وإطلاق فرص التنمية ودعم استثمار الموارد الخاصة بكل مجتمع، تلعب المؤامرات بين الأمم على أيدي القوى العظمى دوراً في استمرار تفشي الجهل والخرافات بهدف الإبقاء على عددٍ كبير من المجتمعات رهينة الصراعات الدينية والعرقية، وبالتالي تقع في حالة مستدامة من الفشل في بناء مؤسسات حكم حديثة، مما يؤدي إلى عجز شعوب بأكملها عن الاندماج في عالم اليوم وغياب دورها في صناعة الحضارة، والبقاء في خانة أشبه ما تكون بحقول تجارب تدار عن بعد! ولطالما اجتهد بعض المفكرين في نفي نظرية المؤامرة وإرجاع أسباب التخلف والانقسامات والفوضى المنتشرة في المجتمعات الإسلامية إلى عوامل ذاتية تتصل بالمجتمعات ذاتها. ولا شك في أن للأسباب الذاتية دورها المؤثر، لكنها لا تنفي نظرية المؤامرة بقدر ما تعززها، من زاوية استغلال القوى العظمى لتلك الأسباب وتوظيفها بدهاء لإعادة إنتاج وتدوير التخلف والتطرف لتكبيل شعوب ومساحات جغرافية بعينها لتحنيطها في مساحة من الفوضى والعنف الذي يظهر على شكل صراعات داخلية دائمة. وبنظرة كاشفة على المساحات المشتعلة بالحروب والاضطرابات في عالمنا العربي، نجد أن خدعة ما يسمى «الربيع العربي» تحولت إلى أداة لمؤامرة أكبر بكثير مما تم استنتاجه حتى الآن من وحي الأحداث والتداعيات. فقد كان تثوير فصائل التطرف والطائفية والإرهاب غاية تحققت واستأثرت بعد ذلك بالمشهد المستمر حتى هذه اللحظة. لذلك لم يعد من الممكن استبعاد نظرية المؤامرة وتجاهل النتائج الكارثية التي نجمت عن تسلسل الأحداث. ويجب أن نتذكر بهذا الشأن استخلاصات المفكر الفلسطيني الشهير إدوارد سعيد، الذي غاص بعمق في عالم الاستشراق وأنجز عنه كتابه الشهير الذي وصف الاستشراق بعدم الدقة والتشكل على أسس الرؤية المسبقة والتآمرية للفكر الغربي تجاه الشرق، وبأنه «تحيز مستمر وماكر من دول مركز أوروبا تجاه الشعوب العربية الإسلامية». وهذه الاستمرارية في المكر الغربي حولت الاستشراق من درس أكاديمي إلى أسلوب للتعامل مع الشرق من أجل الهيمنة عليه وإخضاعه وإعادة بنائه والتسلط عليه. ونرى اليوم أمامنا أن كل الوقائع الحية تدعم ما ذهب إليه إدوارد سعيد في تحليله لفكر الاستشراق ونظرة الغرب المتعالية نحو الشرق. والأدهى من تعالي الغرب جهود استخباراته في العمل على إيقاظ أسوأ ما في الشرق من نزعات وانقسامات مذهبية وطائفية. ونلاحظ أن التنظيرات الغربية لما يسمى بحروب الجيل الرابع والخامس تركز على نمط جديد من حرب الأفكار والصراع مع المجموعات الإرهابية. مع الاشتباه والغموض الذي يكتنف عوامل تسليح الجماعات المتطرفة وتمددها، خاصة في ظل افتقاد الحرب الغربية ضد الإرهاب لعناصر الجدية والمصداقية. وضمن المحفوظات القديمة المتداولة لتأكيد النهج الغربي الاستشراقي القائم على استغلال تناقضات الشرق، تلك الحكاية الشهيرة التي تروى تحت عنوان «فن اغتصاب العقول»، وبطلها سفير غربي كان يجول بسيارته في العاصمة الهندية نيودلهي مع قنصل بلده، وفجأة رأى شاباً هندياً جامعياً يركل بقرة. وتقول الحكاية إن السفير أمر سائق سيارته بالتوقف فجأة، وترجّل منها وذهب مندفعاً نحو البقرة التي تعتبر مقدسة لدى طائفة دينية هناك، وقام بالصراخ في وجه الشاب الذي كان يركل البقره، وراح يدللها وسط دهشة المارة الذين اجتمعوا بعد سماع صراخه في وجه الشاب. ثم عاد السفير إلى سيارته بعد أن دافع عن البقرة، وركب إلى جوار القنصل الذي بادره بالسؤال عن سبب تصرفه، وما إذا كان معتنقاً بعقيدة تلك الطائفة؟ فأجابه السفير: إن ركلة الشاب للبقرة كانت بمثابة صحوة وتمرد على عقيدة طائفته التي نريدها أن تستمر، لأننا لو سمحنا للهنود بالتخلي عن عقائدهم لتقدمت الهند خمسين عاماً إلى الأمام، وحينها سنخسر وجودنا ومصالحنا الحيوية. وأضاف السفير أن واجبه الوظيفي يحتم عليه عدم السماح بانقراض الخرافات لدى الشعوب الأخرى؛ لأن عناصر الجهل والخرافة هي جيوشنا في تسخير المجتمعات. ولا تحتاج حكاية هذا السفير الغربي إلى اختبار لمدى صحة حدوثها، فهي مجرد مثال، ويحوي الواقع أمثلة حية على فن اغتصاب العقول، وما يجري من حولنا يكشف عن أسباب دعم الغرب لكل مشروع ديني متطرف وانفصالي وطائفي في عالمنا العربي والإسلامي!