كثيراً ما يتحول النقد البنّاء إلى نقد هدّام. يرفض أكثر مما يقبل، ويستبعد أكثر مما يستوعب. يُشخِّص النقد. ويجرح الأشخاص. ويعطي البديل المطلق. وكأن من في الحكم على خطأ، ومن في المعارضة على صواب، في ثنائية حادة ناتجة عن عقلية «الفرقة الناجية». فكل الفرق هالكة إلا المعارضة، وكأنها هي «الفرقة الناجية»! مما دفع أحياناً ببعض مَن في السلطة إلى اعتبار أنفسهم «الفرقة الناجية»، وكل فرق المعارضة فرقاً هالكة! وبهذه الطريقة تكون العقلية في السلطة والمعارضة عقلية واحدة. وهي عقلية «التكفير» والتخوين والاستبعاد. وهو ضد ما يُتشدق به باسم التعددية لأنه وقوع في أحادية النظرة، وضد الديمقراطية لأنه وقوع في الاستبداد بالرأي. ولا يبرره تصلب الرأي الآخر. فلا يواجه التصلب بتصلب مضاد. في النهاية العقلية واحدة، ووقوع في الجدل الثنائي الذي يتناقض طرفاه دون أن يجد حل لهما في طرف ثالث يجمع بينهما. وهو جدل إعلامي. الغاية منه كسب الرأي العام من أجل الحصول على الأغلبية في الانتخابات. فالمسألة إذن تنافس واستقطاب سياسي، غايته الكلام وليس تغيير الواقع، الصراخ وليس حل المشاكل اليومية للناس في ثقافة ما زالت تغلب عليها الخطابة التي «ما قتلت ذبابة» في رأي أحد الشعراء المعاصرين. وهذا يدل على العجز الفعلي في الفهم وفي الفعل لأن القادر على الفهم وعلى الفعل يقوم بإنارة الطريق، والإشارة إلى البدائل، وسلوك أحدها غير الذي أخذته الأطراف الأخرى مما ثبت عدم جدواه من قبل. والإنسان على ما تعود. وهو نقد خارج التاريخ. لا زمان له ولا مكان. تقدم هادم دون تقديم بديل. النقد هو ما يعرض للموضوعات التي تلمس حياة الناس: الفقر، البطالة، الإسكان، الصحة، التعليم، المياه. ويستعرض شتى الحلول المقترحة لها، بما في ذلك الحل الذي اختارته السلطة. ويبين أنه قد لا يكون بالضرورة هو أفضل الحلول، وإن لم يكن هنالك أيضاً بالضرورة ما يمنع ذلك. ويعطي الأسباب. ويقترح حلًا آخر أفضل، مبيناً الأسباب كذلك. وكل هذا بالحوار والتفاهم والتعاون في فهم المشكلات العامة الاقتصادية والاجتماعية. وقد يساعد هذا السلطة على التحول من حل إلى حل آخر. بل ويتم حوار وطني حول الموضوع ومقارنة الحلول المقترحة له. ويدخل في النقاش أهل الاختصاص، وليس كل من هب ودب بغية الشهرة، ورغبة في الإزاحة، إثباتاً للذات وليس دراسة للموضوع. ولذلك يتزايد الصراخ ولا يُحل شيء حلاً جذرياً في النهاية. ولماذا لا يتم التعاون بين السلطة والمعارضة؟ فالاكتفاء الذاتي بالقمح، وتوصيل الدعم إلى مستحقيه، وإيجاد بديل سكني لائق لسكان المقابر والعشوائيات وغيرها من المشكلات لا يحتاج إلى خلاف كبير في وجهات النظر. فقط يحتاج إلى اتفاق أهل الخبرة على كيفية حل هذه الإشكالات المزمنة. فالتعاون هنا أفضل من التنافس. والعمل المشترك أكثر فائدة من العمل الفردي. والتجربة الناجحة أفضل من المساجلات النظرية والمماحكات الأيديولوجية. هنا يعني النقد التوجيه والنصح والتبصرة والمشاركة وليس الرفض والاستبعاد. ودون النقد البناء والاستمرار في النقد الهدام يتوقف الوطن عن السير إن لم يتراجع إلى الوراء. ويتم التفسخ والتفتيت والتجزئة. وتكون الأمة هي الخاسرة. فالسلطة في مثل هذه الحالة لم يرشّدها أحد. والمعارضة لم يستمع إليها أيضاً أحد، لأنهما تعملان بنفس المنطق، منطق الاستبعاد، «إما... أو». إما أنتم أو نحن. وإما نحن أو أنتم. هذا ليس دفاعاً عن السلطة أو نقداً للمعارضة، ولكن نريدها معارضة بناءة وليس معارضة هدامة. فيقال في صحف المعارضة على الصفحات الأولى ما تقشعر له الأبدان بالنسبة للسلطة أكثر مما قيل في الأنظمة السابقة. وليس توفيقاً بين الاثنين فما زال منطق الخطأ والصواب متأصلاً في النفوس وفي ثقافتنا الشعبية. بل هو تحفيز وتعبئة لكل القوى السياسية، سلطة ومعارضة، نحو هدف واحد مع احترام كامل متبادل بعيداً عن منطق احتكار الوطنية، وتهم الخيانة أو التخوين والتكفير.