في مجتمع قائم على المساواة، مثل المجتمع الأميركي، تمثل وراثة ثروة كبيرة تحدياً معقداً. وفي عالم أرستقراطي، توفر المكانة الشخصية شرعية تلقائية، أما في الولايات المتحدة، فالثروة الطائلة، يمكن أن تنتج نوعاً من التذبذب في المشاعر، يصبح معه الخط الفاصل بين السعي للتقدم الشخصي، والسعي لإعلاء المبادئ السامية، أكثر استعصاءً على التحديد. ولكن بالنسبة لديفيد روكفلر، الذي مات مارس الماضي عن عمر يناهز 101 عام، فهذا الخط لم يكن موجوداً في الأصل، فقد نظر هذا الرجل إلى حياته دوماً، باعتبارها التزاماً منه، بتمكين الرجال والنساء الأكثر موهبة وتفانياً، من السعي لحل القضايا المهمة لعصرنا، من أجل مصلحة مجتمعنا، ولخير العالم أجمع. لقد خصص ديفيد حياته الطويلة، للتعرف على الموهوبين والقادرين، وتشكيلهم في مجموعات دراسة أو عمل، وتزويدهم بالموارد اللازمة لإنجاح عملهم. ومنذ فترة قصيرة، بدأ الرجل ينضم إلى الجهود التي كان يؤسسها، ولكنني لا أتذكر مناسبة، قام فيها بالصعود إلى المنصة، وأخذ الكلمة من أجل التحدث عن نفسه. لقد سعى الرجل بشكل مستمر لتحقيق حزمة واسعة المدى من الأهداف المهمة، مع المحافظة في الآن ذاته على تواضعه، والابتعاد عن أي محاولة للفت النظر إلى شخصه. والحقيقة أن الشخصية والنزاهة، كانا هما مصدر إلهام ديفيد. ومنذ 60 عاماً تقابلت مع ديفيد عندما كنا نعمل كجزء من مجموعة دراسة تابعة لمجلس العلاقات الخارجية، مهمتها القيام بجهد من ضمن الجهود الأولى، للتعامل مع بعض الجوانب المشؤومة من التقنية النووية، ووضع أهداف معنوية وسياسية تضمن تطويع تلك الجوانب. وبعد ذلك، بفترة قصيرة، شجعنا ديفيد، على تشكيل مجموعة مناقشة، تطورت فيما بعد إلى ما بات يعرف الآن بـ«بيلدربرج جروب»، وهو عبارة عن اجتماع سنوي للقادة الأوروبيين والأميركيين، يهدف لاستكشاف التحديات التي تواجههم، والأهداف المشتركة التي يسعون لتحقيقها. وبعد ذلك بعقد من الزمن. زارني ديفيد، عندما كنت أشغل منصب وزير الخارجية، كي يخبرني على مرأى من بعض الزملاء، الذين أحضرهم معه، بأن نطاق السياسة الخارجية الأميركية بحاجة إلى أن يكون أكثر اتساعاً مما هو عليه. وتطلب الأمر في ذلك الوقت إجراء دراسة عالمية لضم قضايا آسيا لتكون ضمن نطاق تلك السياسة -وزملاؤه الذين أشرت إليهم تضمنوا شخصيات مرموقة مثل جيمي كارتر، وولتر مونديل، وزبيجنيو بريجينسكي، أي حكومة ظل كاملة كانت تنتظر الحلول محل الإدارة التي كنت أخدم فيها. لقد وصفت جهود ديفيد في عالم السياسة، ولكن الحقيقة أن تأثيره كان أكثر شمولاً وتنوعاً بكثير، فقد كان داعماً وراعياً للفن، وجامعاً لأعماله المتميزة، وراعياً كذلك لعلم الطب، كما شارك في قيادة متحف الفن الحديث وجامعة روكفلر، المخصصة لدعم علم الطب. أما دوره كرجل بر وإحسان عالمي، فحدث ولا حرج. فبفضل هذا الدور كان روكفلر يُستقبل في مختلف أنحاء العالم استقبال رؤساء الحكومات، وفي إحدى تلك المناسبات في أواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي، صاحبته إلى الاتحاد السوفييتي السابق، لزيارة رئيسه آنذاك ميخائيل جورباتشوف لمناقشة قضايا نووية. وفي مناسبة أخرى، دعا ديفيد الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، ورئيس اليابان الأسبق «يا سوهيرو ناكاسوني»، وأنا شخصياً، لكتابة وثيقة عن التعامل مع مسألة الانتشار النووي. ولم يكن ممكناً لأحد سوى ديفيد روكلفر أن يجمع هذه المجموعة من المشاركين، أو أن يقنعهم بالفكرة في حد ذاتها. وكانت الخدمة جانباً واحداً فقط من جوانب حياة ديفيد الثرية، أما الجانب الذي يماثله في الأهمية، فكان إخلاصه لاسم عائلته. وعندما تقاعد ديفيد من العمل منذ عقدين من الزمن، كان هناك نوع من القلق في العائلة، بأن هذا التقاعد قد يدفعه للاكتئاب. ولكن رثاء النفس، لم يكن من ضمن صفات ديفيد، كما أنه لم يكن من النوع الذي يفرض احتياجاته على الآخرين. بدلاً من ذلك، وفي الجزء الأخير من حياته، رتب للقيام برحلات لكل جزء من أجزاء الكرة الأرضية. والآن، وبعد رحيل ديفيد روكفلر فسيظل دائماً في أذهاننا كرمز من رموز بلادنا والعالم الذين أثروا إيجاباً في حياتنا. أما بالنسبة لبلادنا أميركا، فسيظل رجلاً يذكرنا دوماً، بأن إرثنا النهائي هو الخدمة والقيم العليا والعمل لصالح الإنسانية، وليس فقط السعي لتحقيق الطموحات الشخصية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»