علي حسن نايفة، عالم الهندسة توفي الأسبوع الماضي، لكنه لم يرحل، فلو قطعنا مشياً وهرولة وسباحةً المسافات عبر القارات والمحيطات التي اجتازها من مولده في قرية «شويكة»، بقضاء طولكرم في فلسطين، إلى إحدى أفضل الجامعات العالمية، «ستانفورد»، في الولايات المتحدة، فآنذاك قد ندرك، كيف نال خلال 4 سنوات شهادات البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه، في أعقد العلوم الهندسية. ونحتاج «الهندسة اللاخطية» التي اشتهر بها عالمياً، لنتابع كيف انتشل أشقاءه من براثن الاحتلال الإسرائيلي، وجعلهم يدرسون ويتبوؤون مناصب أكاديمية مرموقة: منير أستاذ الفيزياء في جامعة «إيلينوي»، وعدنان أستاذ الهندسة الفضائية في جامعة «سنسناتي»، وتيسير رئيس مركز الفضاء في ولاية كليفلاند. وكان «علي نايفة»، وما يزال وسيبقى، حجة عالمية في قياس التشوش أو الاضطراب، حسب العالم الأميركي «دين موك». والتشوش يتحكم بكل شيء في الطبيعة، بما في ذلك جسم الإنسان. والحلول التي وضعها «نايفة» تعمل في ميكانيك المواد الصلبة والسائلة، والديناميات الصوتية، وهندسة النظم، والطيران، وأنظمة الطاقة، والإلكترونيات، والمايكروسكوبات النووية. ويربو عدد بحوثه المنشورة حولها على 600، و11 كتاباً، وقد أشرف على 70 أطروحة دكتوراه. وقد حزنت حزناً شديداً عندما فاتني حضور مراسيم مَنح «علي نايفة»، قبل ثلاث سنوات، أقدم أوسمة العلوم العالمية، وهو وسام «فرانكلين»، وكان من الفائزين به المخترع الألماني «رودولف ديزل» مصمم محرك «الديزل»، والعالمة البولندية الفرنسية «ماري كوري» مطورة الأشعة السينية، وعالم الفيزياء «أينشتاين». وتَحَدّث بيان منحه الجائزة عن «تخصص نايفة في البحث عن نوع من النظام والتنبؤ وسط ما يبدو فوضى، سواء على شكل اهتزازات وأصوات تحدث في محركات الصواريخ، أو في حركة المياه حول البواخر، أو اهتزازات هياكل ضخمة، كالرافعات وناطحات السحاب». «لم أخفق لكني عثرت فحسب على 10 آلاف طريقة لن تعمل»، قال ذلك «توماس أديسون» حامل «وسام فرانكلين» لاختراعاته الفذة، كالمصباح الكهربائي، والحاكي، وكاميرا الصور المتحركة. وقد عثر «نايفة» على 10 آلاف طريقة لم تعمل منذ نزوحه مع أسرته من قرية «شويكة» التي احتلها الإسرائيليون، وكان أبوه المزارع الذي صمّمَ على أن يواصل أطفاله السبعة الدراسة، فانتقل بهم بحثاً عن عمل وسكن ومدرسة في طولكرم، ورام الله، وجنين، واللد، والقدس، وعلى امتداد نهر الأردن، والحدود السورية. ويروي «منير نايفة» في مذكراته بالإنجليزية كيف طرق رجال المخابرات في بلدة «البيرة» باب منزلهم ومعهم قائمقام البلدة، وهو صديق للأسرة، فاعتذر للأم التي كانت لوحدها، قائلاً إنهم يبحثون عن منشورات سياسية محظورة يُشَكُّ في أن ابنها «علي» يروج لها. فتشوا الخزانات والأدراج والصناديق، وكان القائمقام يدردش مع الأم، التي كانت ترقب كل حركة يقوم بها مستخدمو المخابرات، وعندما اقتربوا من دُرج معين حثّتهم بلهجة واثقة على مواصلة البحث، فأدراج كثيرة تنتظرهم كهذا الدُرج. واعتذر القائمقام من «الحاجّة» وطلب منهم الاكتفاء، وحالما غادروا انهارت على الأرض، وأوشك منير أن ينهار معها عندما أشارت إلى الدُّرج الذي توقفوا عنده: «المنشورات هناك يا ابني»! وعلماء فلسطين لا يرحلون بل يُقبِلون، «فأعظم ضعف يكمن في الاستسلام، وأكثر الطرق احتمالاً في النجاح هي دائماً محاولة التجربة مرة أخرى»، قال ذلك توماس أديسون، وكل قادم جديد من علماء «نايفة» تجربة أخرى، وكل يوم يمضي دون أن أعرف ما حققوه خسارة في علمي. ولا أبالغ في ذلك، وقد عرفت منهم حسن (دكتور علوم الكمبيوتر)، وعمّار (دكتور الهندسة الكهربائية)، وأسامة (دكتور تكنولوجيا النانو)، وثامر (دكتور الهندسة الآلية)، وماهر (دكتور الهندسة الإلكترونية)، وطارق (دكتور في الطب ودكتوراه في الهندسة الآلية).