بدأ دور وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في الظهور أخيراً، بعد أن كان حضوره باهتاً في الأسابيع الأولى عقب توليه منصبه. لم يستثمر تيلرسون خلال تلك الفترة أزمة استقالة مارك فلين مستشار الأمن القومي لتوسيع دوره في عملية صنع السياسة الخارجية التي يحدث تنافس بشأنها بين وزراء الخارجية ومستشاري الأمن القومي في كثير من الأحيان. وتُعد إدارة نيكسون الأولى الأكثر شهرة في هذا المجال، حيث اشتد التنافس بين هنري كيسنجر عندما كان مستشاراً للأمن القومي، وويليام روجرز وزير الخارجية. أُخذ على تيلرسون أنه لم يبدِ أي تحفظ على اقتراح البيت الأبيض تقليص ميزانية وزارة الخارجية، على رغم أن هذا التقليص قد يؤثر في قدراتها، ومن ثم في دورها. وبينما غاب عن عدد من اللقاءات المهمة التي عقدها مسؤولون في البيت الأبيض مع ضيوف أجانب، بدا حضوره ضعيفاً في المهام التي قام بها خلال الأسابيع الستة الأولى في منصبه، وخاصة رحلته الخارجية الأولى إلى ألمانيا للمشاركة في اجتماع وزراء خارجية مجموعة دول «العشرين» من 15 إلى 17 فبراير الماضي. وكان أكثر ما حُسب عليه أنه لم يستطع تقديم إجابة انتظرها المشاركون في ذلك الاجتماع بشأن سؤال يقلق الكثير منهم عن معنى شعار «أميركا أولاً» وتأثيره في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ولكن الأمر اختلف بعد ذلك، وتحديداً منذ جولة تيلرسون الآسيوية التي شملت اليابان وكوريا الجنوبية والصين في الفترة من 15 إلى 19 مارس الماضي، ثم اجتماع التحالف الدولي ضد الإرهاب في واشنطن في 22 من الشهر نفسه. فقد حقق تيلرسون نجاحاً في جولته الآسيوية عندما وجه رسالة واضحة بشأن التزام الولايات المتحدة بدعم اليابان دون أن يزيد غضب الصين التي كانت قيادتها تتابع محادثاته في طوكيو استعداداً لاستقباله في بكين، وتحضيراً لزيارة رئيسها إلى أميركا بعد أيام. وساهم نجاح تيلرسون في تمهيد الأجواء أمام هذه الزيارة، عندما حقق معادلة صعبة عبر تأكيد الالتزام تجاه اليابان من دون إثارة المزيد من مخاوف الصين التي ينتاب قيادتها قلق من سياسة إدارة ترامب لثلاثة أسباب. الأول التداعيات المتوقعة لسياستها الحمائية على حرية التجارة الدولية التي تُعد محور الارتكاز في سياسة الصين الاقتصادية. والثاني عدم ارتياح بكين بشأن سياسة ترامب تجاه تايوان، وقلقها من أنباء تفيد احتمال بيع أسلحة أميركية إليها. أما السبب الثالث فهو تحميل الصين مسؤولية تراها غير منطقية عن كبح جماح كوريا الشمالية التي تعطي هذه الإدارة أولوية لمواجهة برنامجها النووي والصاروخي. وقد تمكن تيلرسون من تحقيق تقدم جزئي ولكنه مهم باتجاه احتواء انزعاج الصين من تغير تخشاه في السياسة الأميركية، على رغم أن ترامب لم يساعده في هذه المهمة الصعبة، بل واصل تغريداته المثيرة لقلق بكين. فقد غرَّد، عشية زيارة وزير خارجيته، قائلاً إن الصين لا تفعل إلا القليل لدرء خطر التسلح في كوريا الشمالية. ولكن تيلرسون استخدم لغة هادئة، وحث الصينيين على العمل مع واشنطن لوضع حد للتوتر المتصاعد في شرق آسيا، وترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية التوصل إلى حل مع حكومة بيونج يانج، مع تأكيده في الوقت نفسه أن واشنطن لن تتردد في مواجهة سياستها العدوانية. ولكن صعود دور تيلرسون على هذا النحو لا يعني بالضرورة أنه سيكون لاعباً رئيسياً في عملية صنع السياسة الخارجية الأميركية. فالأرجح أنه قد لا يستطيع أداء دور جوهري في هذه العملية إلا إذا بذل جهداً أكبر لكي يلملم خيوطاً كثيرة ما زالت بعيدة عنه، أو غير واضحة لديه، وهو القادم من خارج المؤسسة السياسية التقليدية. وهو يختلف في ذلك عن الجنرالين المخضرمين اللذين يشغلان منصبين أساسيين في منظومة السياسة الخارجية، وهما وزير الدفاع ديفيد ماتيس ومستشار الأمن القومي إتش. أر. ماكماستر، وهذا فضلاً عن أن دور من يشغلون هذين المنصبين يزداد تلقائياً كلما توسع المكونان الدفاعي والأمني في هذه المنظومة. وهذا هو ما يحدث الآن في ظل الأولوية القصوى التي يعطيها ترامب لمواجهة تنظيم «داعش»، والإرهاب بوجه عام، على نحو يجعل الوسائل العسكرية مقدمة على الأدوات الدبلوماسية على الأقل خلال الفترة التي ستستغرقها هذه المواجهة. وليس الاتجاه إلى تقليص ميزانية وزارة الخارجية، وزيادة نفقات الدفاع في الوقت نفسه بنسبة 10%، إلا مؤشراً أول على ذلك.