كان لي منذ أيام شرف إعطاء محاضرة في مدينة مونتريال الكندية عن «مكانة المغرب وتأثيره في العالم»، بدعوة من المركز الثقافي المغربي «دار المغرب» الذي يترأسه الأستاذ النشيط والواعد جعفر الدباغ. ونوعية الحضور والقيمة الفكرية للنخب العربية والعالمية التي تعيش في المدينة، جعلتني أتناول الموضوع من جهتي العلاقات الدولية والعلوم السياسية، لأن قراءة لأية سياسة خارجية، ولأية قوة دبلوماسية لأية دولة تستدعي تشخيصاً استراتيجياً ينظر أولا إلى مدى قدرة البلد على فهم النظام العالمي الجديد، وإلى مدى نجاح البلد في التموقع داخل هذا النظام، تأثيراً واستفادةً من بعض إيجابياته في ظل عولمة عاتية لا ترحم إلا من كان ذكياً. أعطيت مثالاً عن تجربة الصين، هذا البلد الذي استطاع فهم العولمة، والارتماء في مبانيها بذكاء ونجاح؛ فالدولة ليست ذات طابع «دعوي»، يسعى إلى تصدير نموذجه التاريخي، كما فعلت وتفعل الدول الغربية كالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا اللتان تسعيان إلى تصدير النموذج الغربي، زاعمة أنه لا يمكن تحقيق أي نجاح دون المرور وامتلاك ليس فقط نموذجها الفكري والمجتمعي والثقافي بل وأيضاً نموذجها الاقتصادي والسياسي؛ فدولة الصين مثلاً، مادام أن أراضيها ومصالحها السيادية لا تمس بسوء، كانت ولا تزال دولة قائمة في سياستها الخارجية على عدم التدخل، والعمل بهدوء وعدم إثارة المشاكل، موازاة مع نجاح هائل في تحقيق الثورة الاقتصادية وتحقيق الغلبة في الميدان الاقتصادي بناءً على قواعد لم تفهمها بعد العديد من الدول الغربية، كضرورة اليقين بأن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني بالضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق- عدو»، وإنما في إطار «رابح- رابح». ذلك المثال الذي سردته في عجالة، ولربما خصصنا له مقالات في الأسابيع المقبلة، هو سر نجاح دولة الصين مثلاً، وسر نجاح الدبلوماسية المغربية اليوم في الكثير من علاقاتها مع الدول الأخرى.. فالمغرب من خلال قراءة جيدة للنظام العالمي الجديد ولقواعد العولمة، فهم أن مستقبل العلاقات الدولية لم يعد يكمن حصراً في الشراكة النسبية «شمال- جنوب»، وإنما أيضاً في الآفاق الواعدة والغنية للتعاون «جنوب- جنوب»، وكل الاتفاقات الصناعية والتجارية وغيرها والتي تتعدى الألف بين المغرب ودول القارة الأفريقية هي قائمة على مفهوم جديد للتعاون على أساس شراكة مربحة للجميع، وهذا المنظور هو الذي يطبع أيضاً علاقة المغرب بدول الاتحاد الأوروبي والدول العربية. ثم إن المغرب فرض اليوم ذاته كفاعل أساسي سواء على الصعيدين السياسي والدبلوماسي أم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. والتنمية متعددة الأبعاد التي حققها البلد، يقدم من خلالها للعالم أجمل صورة عن بلد من بلدان الجنوب مختلف عن الآخرين. وكان المغرب منذ قرون صلة وصل بين أوروبا المتوسطية وأفريقيا، ولا ننسى قيم التسامح الكبيرة التي نشرتها المملكة المغربية في منطقة الساحل والصحراء، وكذا المقاربة الشمولية التي تؤدي إلى تعزيز قواعد الإسلام المعتدل والوسطي، لاسيما من خلال تكوين الأئمة القادمين من الدول العربية والأفريقية بل والغربية وفقاً لتعاليم المذهب المالكي، وقد أشدت أيضاً في محاضرتي بقيم الانفتاح التي تعرفها دولة صديقة للمغرب وهي دولة الإمارات العربية المتحدة التي تطبق المذهب المالكي الوسطي والمنفتح. وتحدثت في المحاضرة عن تأثير الإنسان في بناء الدولة والمؤسسات، وعن علاقة معادلة «داخل -خارج» في تثبيت سياسة خارجية ناجحة. فطبيعة تكوين الشخصية المغربية التاريخية هي التي مكنت اليوم الفاعلين السياسيين والمجتمعيين داخل المجال السياسي العام، من إنجاح الميثاق السياسي والتعاقدي خلافاً لكل دول المنطقة، انطلاقاً من مبادئ التنازل والتوافق والثقة التي عليها نجاح الميثاق السياسي بين النخبة السياسية في الحكم، والنخبة السياسية في المعارضة. وقاعدة التنازلات المتبادلة يجب أن تكون مقرونة بجهد فكري وميداني بل ورياضي تجعل كل الأطراف تعي حدود التنازلات وحساسية المجال التفاوضي السياسي. كما أن ذلك يستلزم ثقة متبادلة بين الأطراف ومخرجاً عقلانياً حتى تصبح المعادلة إيجابية، وإذا كانت سلبية فإن الآليات الديمقراطية تتلاشى وتتلوث، وفي آخر هذا المطاف يؤدي الميثاق التعاقدي إلى استحكام هياكل الديمقراطية في حال المعادلة الإيجابية.. وهذا الخيار السياسي الشجاع الذي تبناه الفاعلون السياسيون منذ مدة هو الذي أعطى للمغرب تلك الخاصية الاستثنائية في منطقة تعج بالمشاكل، وهو ما يساهم في الرفع من مستوى النجاح الدبلوماسي، وتأثير المغرب إقليمياً ودولياً.