جاءت القمة العربية الأخيرة لتطرح من الأسئلة ما يثير الأسى والشجن في مرحلة تكاد تكون مغلقة تماماً، فالحروب تشتعل في عموم العالم العربي، والتدخلات في أقطاره تفعل أفعالاً خطيرة، وتزيد النار اشتعالاً ربما إلى درجة الاعتقاد بأن حرباً عالمية جديدة راحت نُذرها تظهر في العالم العربي بدءاً بسوريا وانتهاء بالجميع، مما يهدد السلم الإقليمي وربما كذلك الدولي. ومن جانب آخر، ظهر من الأطراف مَنْ يرى أن ما يحدث إنْ هو إلا تعبير عن بزوغ ظاهرة اعتُبرت خطيرة هي «الربيع العربي» بحيث جرّت ما أتى بعدها من صراعات مأساوية في سوريا والعراق واليمن وليبيا... إلخ. و«اكتملت»، كما يقال، حين ظهرت بعض الحركات الأصولية، فكان «داعش». لقد نشأ هذا بتآمر من نظم إقليمية، وبالتعاون مع أوساط غربية، وكذلك بتحفيز من مصادر داخلية وخارجية، وكان دور إيران وآخرين فاعلاً بحق. لقد اختلطت الأوراق بين الدواخل العربية والخارج، ما جعل أطرافاً من أجل السلطة يلجأون إلى «داعش» ترسيخاً للوجود الـ«داعشي» في العالم العربي. وفي سياق ذلك كله نشأت محاور من الصراع، كما من التحالف، أججت العالم العربي، وتجلى ذلك بالسلاح والتهجير والتكفير والتجويع، كما اكتسب الصراع صيغاً ملفقة من الطائفية والظلامية والعرقية، إضافة إلى العزوف عن كل شيء دون التمكن من ذلك. أما تحول سوريا إلى هدف الجميع، فقد برز عبر محاولة تفكيكها ومحوها من الذاكرة، ولكن عن طريق اقتسامها بين أهل المصالح الاستراتيجية والتعصبات الدينية، إضافة إلى استجلاب أصحاب قطع الرؤوس. وهكذا نجح أولئك في هذا كله، مدعومين من أطراف تزعم انتماءها للعبق السوري. وقد أنتج ذلك حالة قد تكون فريدة في التاريخ العربي، ولا نقول في التاريخ العالمي، إذ ما الذي تبقى من سوريا السورية والعربية للرهان عليه؟ ذلك كله يضعنا أمام العنوان، الذي يتصدر هذه الكلمات، وهو عنوان مركب يشي بأن سوريا لم تأت من فراغ تاريخي، إنه عنوان يعتبر هوية سوريا العربية. وقد كلف الاحتفاظ بهذا العنوان الكثير للحفاظ على سوريا عربية بقدر ما هي سورية، وسوريا بقدر ما هي عربية. فهي جزء ثنائي، ولا يمكن استفراده بعيداً عن هويته المركبة الثنائية هذه، ولذلك، فإن إسقاط وجهها الأول إنما يعني إسقاط وجهها الثاني، بحيث لا يعود أمامنا أثر منها. وفي الحالة التي نحن فيها، تدعونا إلى التأكيد على أهمية مؤتمر القمة، الذي عقدته «الجامعة العربية» منذ أيام للمرة الثامنة والعشرين: إنها لحظة لعلها أن تكون الأكثر حسماً وأهمية في تاريخ الجامعة منذ عقود كثيرة، منها العقد الذي انفصل فيه جسم الجامعة عن التاريخ، وكان ذلك عام 1958، أي عام انفصال طرفي الجمهورية العربية المتحدة، سوريا ومصر عن بعضهما بعضاً. في هذا السياق أذكر حدثاً تأبّد في ذاكرتي. كان ذلك حين زار رئيس الجمهورية العربية المتحدة في حينه جمال عبدالناصر، مدينة حمص، التي ألقى فيها خطاباً أمام الجمهور، فكان أن ألح على مسائل كثيرة مهمة لحماية الوحدة. ولما كان الحفل قد تمّ أمام السراي الحمصي، فقد أتيح لكثيرين أن يوجدوا حول الرئيس. وبعد الحفل أعلمني أحد الذين أحاطوا بالرئيس أن أحد المثقفين السياسيين، الذين وجدوا، نبّه الرئيس عبدالناصر أثناء ذلك إلى أهمية الديمقراطية، قائلاً: والديموقراطية يا سيادة الرئيس! فقد غابت الديمقراطية كنظام حكم عن معظم العالم العربي، وبقيت غائبة بعد ذلك! والملاحظ هنا أن سبب تفكك الوحدة السورية المصرية كان غياب الديمقراطية، وعودة الاستبداد الديكتاتوري إلى سوريا، مدعمة بأحكام عسكرية قادتها انقلابات فاضحة. وقد استمر الوضع على هذه الشاكلة، إلى أن أصبحت سوريا مهشمة زيادة على ما أصابها أثناء الوحدة وبعدها. ولكن هذه الوحدة وما بعدها أسهمت في زعزعة الكيان الوطني السوري، إلى درجة التهديد لهذا الكيان: لقد سقط الكيان الوطني والقومي أثناء الوحدة سابقاً، وأصبح التهديد قائماً للوطنية، وكذلك للقومية، إلى درجة راحت سوريا تعرض فيها للتصفية لحساب الطائفية والتقسيمية وغيرها من آفات العصر! إن لقاء أطراف الجامعة العربية الثامن والعشرين قد يكون، أو ربما يجب أن يكون مقدمة لحماية العالم العربي بمثابته وطناً للعرب، موزعين في أقطار منه. أما الجديد في المسألة ها هنا، فيتجسد في «المعلومة» التالية: ليست هنالك عناية مجانية بهذا العالم- الوطن، فإذا أصبحت مفرداته المتمثلة بـ«أقطاره» رهن السلاح والطائفية والهوس التخريبي والاستفراد، فلم لا نقرّ بأن حماية هذه الأقطار تعني حماية الوطن. وانطلاقاً من التاريخ العربي خصوصاً من التاريخ العالمي عموماً، فإن بقاءه حياً فاعلاً متعاظماً متعالياً لا يمثل حالة عفوية تتصل بالصدفة، بقدر ما يمثل حالة توجد بقدر ما يحافظ عليها، وبقدر ما تفعّل الجهود كلها باتجاه حمايتها تطويراً وتعميقاً وحفظاً من موقع الشق الأول باتجاه القطر، ومن موقع الوطن باتجاه الأقطار كلها، والعكس صحيح!