هذا الأسبوع أخطرت رئيسةُ الوزراء البريطانية تيريزا ماي الاتحادَ الأوروبي رسمياً باعتزام بريطانيا بدء عملية الخروج من الاتحاد، إيذاناً بالشروع في إجراءات الطلاق بين الطرفين، وبداية عهد جديد بالنسبة لبريطانيا خارج الاتحاد بعد 44 عاماً من العضوية، ترجمةً لنتائج استفتاء يونيو 2016 الذي صوّتت فيه أغلبية من البريطانيين لصالح «الانسحاب» (52 في المئة)، وإنْ بفارق بسيط عن نسبة المؤيدين لـ«البقاء» داخل الاتحاد (48 في المئة). وفي كتاب «الطريق إلى مكان ما.. التمرد الشعبوي ومستقبل السياسة»، يرصد الكاتب والصحافي البريطاني «ديفيد غودهارت» خطوط الصدع السياسية والأخلاقية التي تقسّم بريطانيا اليوم. وفيه يعود إلى موضوعه الأثير، الهوية والهجرة، محاججاً بأن خط الصدع الرئيس في بريطانيا وغيرها يفصل حالياً بين فريقين رئيسيين هما: «المنتمون لمكان ما»، والمقصود بذلك أولئك الذين يقطنون عادة في البلدات الصغيرة أو المناطق الريفية، وهم في العادة محافظون اجتماعياً وأقل تعليماً، من جهة، و«المنتمون لأي مكان»، والمقصود بذلك أولئك الذين ليس لديهم ارتباط بمكان معين، وهم في الغالب متعلمون وليبراليون اجتماعياً ومن سكان المدن، من جهة ثانية. ويشير المؤلف إلى أرقام وإحصائيات لاستطلاعات الرأي، ليُظهر أن «المنتمين لمكان ما» يشكّلون قرابة نصف عدد السكان، في حين يشكّل «المنتمون لأي مكان» ما بين 20 و25 في المئة. أما الباقون فيصنّفهم باعتبارهم «أصحاب البين بين». ويقول «غودهارت» إن تحديد أي فريق أو قبيلة من «قبائل القيم»، ينتمي المرء هو أمر يتوقف إلى حد كبير على الطريقة التي تتم بها الإجابة على سؤال ما إن كانت بريطانيا باتت تبدو، في نظر صاحب الإجابة، مثل بلد أجنبي. وفي هذا السياق، يشير المؤلف إلى نتائج استطلاع للرأي أجراه مركز «يو-غوف» في عام 2011، وجد أن 62 في المئة يتفقون مع الفكرة القائلة: «إن بريطانيا تغيرت خلال الآونة الأخيرة إلى حد كبير، وإلى حد باتت تبدو معه مثل بلد أجنبي، وهذا ما يجعلني غير مرتاح». وبالنسبة لغودهارت، فإن هذه البيانات تؤكد أن الفريقين موجودان وحقيقيان: فريق يشعر بالضيق وعدم الارتياح تجاه العالم المعاصر، يشده الحنين إلى الماضي «الجميل»، وينتابه شعور بأن «التغيير خسارة»، وإيمان قوي بأن واجب الزعماء البريطانيين هو تقديم مصالح البريطانيين على ما سواها. وفريق ثان يخلو من هذا الحنين، ويؤمن بأن المساواة والكفاءة هما اللتان ينبغي أن تحكما مواقفه من مواضيع مثل العرق والجنس والنوع. هذا التمايز بين الفريقين الذي يتحدث عنه غودهارت يتماهى مع الانقسام الموجود بين من صوتوا لصالح الانسحاب ومن صوتوا ضده. غير أنه إذا كانت الأدلة التي يسوقها تبدو متوقعة نوعاً ما، فإن المفاجأة الوحيدة ربما هي أن فارق الفوز كان ضيقاً للغاية. ونظراً لتلك النتيجة، التي كانت تعني خسارة «المنتمين لأي مكان» لشيء يثمّنونه كثيراً، أي عضوية بريطانيا للاتحاد لأوروبي، فلا شك أن التقدميين الذين لا يجدون غضاضة في إخضاع أنفسهم للنقد الذاتي سيرغبون في التفكير والتأمل بغية معرفة مكامن الخطأ، وكيف وجدوا أنفسهم في تنافر كبير مع أغلبية من مواطنيهم. بيد أنه أمام هذا التصدع الذي يرصده غودهارت، وخاصة بخصوص موضوع الهجرة، اختار «المنتمون لأي مكان» عموماً صم آذانهم عن المشكلة علها تختفي من تلقاء ذاتها، كما يقول. ولعل أبرز مثال على ذلك هو موقفهم من موضوع الهجرة ونظرهم إلى قلق مواطنيهم المتوجسين والمستائين من الهجرة باعتباره مشكلة مادية خالصة يمكن حلّها اقتصادياً، من خلال فرض حد أدنى للأجور قصد منع المهاجرين من إضعاف الأجور المحلية، مثلاً، أو زيادة التمويل المخصص للسكن أو الصحة أو التعليم في المناطق التي تستقبل أعداداً كبيرة من المهاجرين. تدابير لا شك أنها جدية وضرورية، لكنها تتجاهل الاستياء الذي يعبّر عنه «المنتمون لمكان ما» المحافظون، الذين يرون أن بلدهم شرع أبوابه أمام المهاجرين على نحو مبالغ فيه، وهو استياء ثقافي بقدر ما هو اقتصادي، إذ يشعرون أن مدنهم قد تغيرت بشكل كبير جداً. ويؤكد غودهارت أنه عندما يقول الناس إن مشكلتهم لا تتعلق بالمال فقط، فإنهم يقولون الحقيقة. موقف غودهارت هذا يثير الإعجاب والإشادة في عدد من الأوساط في بريطانيا، لكن المنتقدين يلفتون النظر بالمقابل إلى عيوب وحالات قصور تعتريه، ومن ذلك مثلا موقفه من الأقليات الدينية والعرقية في بريطانيا. إذ مع أنه يعترف بأن هذه المجموعات يمكن أن تصدر عنها مواقف لا تختلف عن مواقف «المنتمين لمكان ما» (ومثال ذلك إيلاء الأولوية للاستقرار العائلي)، إلا أنه يتحدث عنها عبر ثنايا الكتاب باعتبارها غيمة تعتم أفق البريطانيين «الأقحاح» المشمس، وذلك لأن قدومهم هو الذي غيّر ملامح بريطانيا إلى حد لم يعد فيه من الممكن التعرف عليها، كما يعتقد. والحال أن ذلك الكلام مردود عليه وبالإمكان الحجاج بأن القيم التي يثمّنها غودهارت لدى المحافظين، موجودة أيضاً عند نظرائهم الليبراليين، ومن ذلك حسن الجوار، والثقة، والشعور بالمصير المشترك.. وكلها أشياء توجد لدى الأقليات في بريطانيا، كما تؤكد الدراسات في هذا الشأن. ثم إن الأقليات لم تسبب الانقسام الاجتماعي الذي يتأسف لحدوثه غودهارت: فالعولمة والأتمتة وغيرها من التحولات، تتحمل قدراً أكبر من المسؤولية مقارنة بتأثير الأقليات. ومما لا شك فيه أن الأقليات يمكن أن تكون نموذجاً أكثر منها تهديداً، وشيئاً تتم محاكاته أكثر منه شيئاً يتم التهيب والحذر إزاءه. محمد وقيف الكتاب: الطريق إلى مكان ما.. التمرد الشعبوي ومستقبل السياسة المؤلف: ديفيد غولدهارت الناشر: سي. هُرست آند كو تاريخ النشر: 2017