أن تسعى حكومة روسية لممارسة النفوذ في بلدان غربية ليس أمراً جديداً؛ ذلك أنه على مدى عقود عدة كان الاتحاد السوفييتي يدعم الأحزاب الشيوعية الغربية ويشن حملات يروج فيها معلومات كاذبة، كما كان جهاز الاستخبارات السوفييتي «كي جي بي» يمد الإرهابيين والمتطرفين بالمال والسلاح، ومثال ذلك «جماعة الجيش الأحمر» و«الجيش الجمهوري الأيرلندي». وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، توقفت تلك التدخلات، فـ«كي جي بي» كان في حالة تفكك، وأهم من ذلك أن جزءاً كبيراً من المؤسسة الروسية وقتئذٍ كان يرغب في الانضمام إلى الغرب، وليس في إضعافه، لكننا اليوم نعيش في عهد مختلف، عهد لا تدار فيه روسيا من قبل «إصلاحيين»، وإنما من قبل رجال فاحشي الثراء يؤمنون بأن المؤسسات الغربية، والقيم الديمقراطية الغربية، تشكّل تهديداً لسلطتهم وأموالهم، واليوم عاد هؤلاء إلى تكتيكاتهم القديمة، لكن مع بعض التغييرات الجديدة. نعلم أن وسائل التواصل الاجتماعي سهَّلت على الدولة الروسية نشر معلومات كاذبة، لكن قدراً أقل من الاهتمام تم إيلاؤه لرجال الأعمال الروس الخواص الذين يسهّلون على الحكومة الروسية كسب أصدقاء وشراء نفوذ أكثر مما كان يفعل نظراؤهم السوفييت. فمعظم الأوليغارشيين الروس «المستقلين» ليسوا كذلك البتة: فأموالهم أتت في الأصل من الدولة الروسية، عبر عمليات «الخصخصة» المتلاعب بها وغسل الأموال. وهم يعتمدون على الدولة للحفاظ على تلك الأموال، وإن طُلب منهم إسداء خدمات لها، فلن يتأخروا عن ذلك، غير أن معظم ما يقومون بهم نيابة عن السلطة يبدو عملاً عادياً: شراء الشركات وبيعها، الاستثمار في العقار، توظيف المستشارين. هذا السياق يساعدنا على تفسير المسار المهني لـ«بول مانافورت»، المدير السابق لحملة الرئيس ترامب، فوفق وكالة «أسوشييتد برس»، فإن الملياردير الروسي «أوليج ديريباسكا» وظّف مانافورت في 2015 لغرضين اثنين: مساعدة شركته على الإقلاع، و«التأثير على الحياة السياسية، والتعاملات التجارية، والتغطية الإعلامية داخل الولايات المتحدة وأوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.. خدمةً لمصلحة فلاديمير بوتين». والواقع أن مانافورت لا ينكر عمله لحساب ديريباسكا، الذي وظّفه بشكل قانوني، لكنه يقول إنه لم يكن يعمل لحساب الدولة الروسية، والواقع أنه من الناحية التقنية محق في ذلك، أما عملياً فلا يوجد فرق. عملياً كان مانافورت يعمل لحساب الدولة الروسية بصفة أخرى. فمن 2007 إلى 2012، عمل الرجل مستشاراً لفيكتور يانوكوفيتش، السياسي الموالي لروسيا الذي انتُخب في 2010 رئيساً لأوكرانيا. وعندما وصل إلى السلطة، عمل يانوكوفيتش على ترسيخ العلاقات الفاسدة بين الأوليغارشيين الروس والأوكرانيين، كما سرق مليارات الدولارات، وأضعف الدولةَ الأوكرانية، وقوّض الدستور، وأطلق قواته الأمنية على المحتجين قبل أن يفر من البلاد. ومن الناحية التقنية، سيكون مانافورت على حق إذا قال إن عمله لحساب يانوكوفيتش لم يكن باسم الدولة الروسية، ولكن عملياً لم يكن ثمة فرق. وقد لعبت الأموال الخاصة الروسية دوراً في مسار ترامب، فمع أنه ما فتئ يشدد على أنه لم يسبق له أبداً الاستثمار في روسيا، فإن روسيا استثمرت فيه، ولعل الكثيرين ما زالوا يتذكّرون ما قاله ترامب في 2008 من أن المال الروسي يشكل جزءاً كبيراً من مشاريعه. ومؤخراً، أظهر تحقيق لوكالة أنباء «رويترز» أن حملَة الجوازات الروسية استثمروا 98 مليون دولار على الأقل في سبعة مشاريع عقارية مملوكة لترامب في فلوريدا وحدها، وهو عدد لا يشمل أي مستثمرين يخفون أسماءهم خلف شركات وهمية مجهولة. ومن الناحية التقنية، فلا علاقة لهذا المال بالدولة الروسية، لكنه عملياً كان سبباً في كسب التأثير والنفوذ لصالح روسيا، والواقع أنه على مدى سنوات كثيرة، وقبل أن يصبح رئيساً بوقت طويل، كثيراً ما كان ترامب يشيد بروسيا ورئيسها. وفي 2007، قال إن بوتين «يقوم بعمل رائع». وفي 2015، وصفه بأنه «رجل يحظى بالتقدير والاحترام داخل بلده وخارجه». وعلى غرار الأموال التي دفعها ديريباسكا لمانافورت، فإن الاستثمارات الروسية الكبيرة في شركات ترامب، والتي ما زال ترامب يمتلكها، ليست رشى. كما أنه ليست لـ«كي جي بي» علاقة بها، وربما لا تتضمن أي أموال سرية أيضاً، لكن السؤال الآن هو ما إن كان النظام السياسي الأميركي قادراً على التعاطي مع هذا الشكل من الفساد الروسي المعاصر. الكونجرس لا يمكنه أن يكتفي بطرح السؤال: «هل كان ذلك قانونياً؟»، لأنه ربما كان كذلك. وبدلاً من ذلك، يتعين على الكونجرس، أو أي جهة تحقيق مستقلة، أن تسأل: «هل كان ذلك أخلاقياً؟»، لأنه بالتأكيد لم يكن كذلك، و«هل يمثّل تأثيراً غير مقبول؟»، وهو ما يمثله من دون شك! آن آبلباوم محللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»