يعتبر ميكروب مرض السل من الميكروبات التي لازمت الجنس البشري منذ فجر التاريخ، حيث وجدت آثار المرض في بقايا عظام إنسان الكهف، وفي العمود الفقري لمومياوات الفراعنة، وظل هذا المرض يحصد أرواحاً بشرية بالملايين خلال العقود والقرون وآلاف السنين، وقد بلغ ذروته خلال القرن الثامن عشر في أوروبا، حينما كان السل الذي عرف بـ«الطاعون الأبيض» مسؤولاً عن 25 في المئة من جميع الوفيات بين سكان القارة الأوروبية. وخلال القرنين الماضيين، مع تحسن نظم الصرف الصحي، وارتفاع مستوى النظافة بوجه عام، ومستوى المعيشة ونوعية التغذية، ومع تطوير التطعيمات الطبية، وغيرها من إجراءات الصحة العامة، تراجع خطر ميكروب السل بشكل كبير، إلا أن العلامة الفارقة في تاريخ العلاقة بين هذا الميكروب وأفراد الجنس البشري كانت مع اكتشاف عقار «ستربتوميسين» عام 1946، الذي يعتبر أول علاج فعال ضد المرض، مما جعل تحقيق الشفاء التام هدفاً من الممكن تحقيقه. إلا أن السل ظل يشكل أحد أخطر الأمراض المعدية، وواحدة من أهم مشاكل الصحة العامة على الإطلاق، وهو ما يتضح من أنه في عام 2010 وحده، تم تشخيص قرابة تسعة ملايين إصابة بالمرض للمرة الأولى، ووفاة ما بين مليون و1.5 مليون شخص، وفي عام 2012 قدر وجود 8.5 مليون حالة إصابة مزمنة، نشطة، أي أنها تتسبب في عدوى الآخرين. إلا أن هذا الوضع قد يكتب له أن يتغير عما قريب، في ظل اختراق واعد، نجح في تحقيقه فريق من العلماء في كل من «أوكسفورد» و«برمنجهام» ببريطانيا، حيث نجح هذا الفريق في تحديد وفصل الأنواع المختلفة لميكروب السل، بالاعتماد على أسلوب تقني حديث في فك الشفرة الوراثية (Genome Sequencing)، وفي غضون أسبوع واحد فقط، وهو ما يعتبر إنجازاً هائلًا بكل المقاييس، في ظل كون المرضى المشتبه في إصابتهم بالميكروب قد يضطرون، حالياً، للانتظار لشهور لتأكيد إصابتهم، وللحصول على العقار المناسب لنوع أو فصيلة الميكروب الموجود في أجسادهم. ويعود جزء كبير من الوضع العالمي الحالي لمرض السل إلى ظهور أنواع من الميكروب المقاوم للمضادات الحيوية، أدت إلى عكس اتجاه الأمور، وتسببت مرة أخرى في تزايد مطرد في عدد المرضى، بعد أن شهدت معدلات الإصابة انخفاضاً مستمراً، وإن كان تدريجياً منذ عقد الخمسينيات مع اكتشاف «الاستربتوميسين»، وهو ما ولد حينها آمالاً كبيرة بأن البشرية ربما سيكتب لها أخيراً الانتصار في معركتها المصيرية ضد هذا المرض اللعين. وقد دفع تزايد معدلات الإصابة خلال العقود القليلة الماضية بمنظمة الصحة العالمية في عام 1993 إلى الإعلان عن تحول السل إلى طارئ عالمي، في سابقة هي الأولى من نوعها، كما أظهر تقرير صدر عام 2010 عن المنظمة الدولية، أن مرضى السل في بعض مناطق العالم يعاني ربعهم من نوع من الميكروب، لا يمكن علاجه بالعقاقير القياسية أو الاعتيادية، فعلى سبيل المثال: تكشف الفحوص المخبرية أن 28 في المئة من الحالات التي تم تشخيصها عام 2008 في منطقة شمال شرق روسيا، هي لإصابات بنوع من الميكروب المقاوم لعدة عقاقير، وهي النسبة الأعلى في تاريخ انتشار الميكروب المقاوم للعقاقير، على أساس أن أعلى نسبة مسجلة سابقاً كانت 22 في المئة فقط في مدينة «باكو» بأذربيجان. ومن منظور عالمي، أظهر التقرير الدولي حول انتشار ميكروب السل المقاوم لعدة عقاقير (MDR-TB) والميكروب فائق المقاومة (XDR-TB)، وقوع قرابة نصف مليون إصابة بهذه الأنواع الخطيرة من الميكروب عام 2008، توفي ثلثهم حتى الآن بسبب فشل العقاقير المتاحة في علاج مرضهم، وكما هو الحال في الكثير من الأمراض المعدية، وخصوصاً التنفسية منها، تتحمل القارتان الآسيوية والأفريقية العبء الأكبر من المرض، حيث تقع 50 في المئة من إجمالي حالات الإصابة بميكروب السل المتعدد المقاومة حول العالم، في الهند والصين وحدهما، وفي الوقت نفسه ترزح القارة السمراء تحت معدل إصابات يزيد على 70 ألف حالة سنوياً. ويأمل العلماء في عكس هذا الاتجاه مرة أخرى، من خلال عدة استراتيجيات، يتمحور أساسها حول تفعيل برامج الصحة العامة الهادفة لمكافحة المرض وعلاج المصابين به بشكل فعال، مع الارتكاز على الأساليب التقنية والتكنولوجيات الحديثة التي يمكنها أن تجعل من الأسهل والأسرع تنفيذ هذه البرامج، مثل الاختراق الذي أعلن عنه هذا الأسبوع علماء «أوكسفورد» و«برمنجهام»، بالاعتماد على فك الشفرة الوراثية للميكروب في غضون أيام قليلة.