ضمن آخر خطاب له حول «حالة الاتحاد» في سنة 1961، ندَّد الرئيس والجنرال الأميركي السابق دوايت آيزنهاور بتأثير المجمع الصناعي العسكري على عملية رسم وتحديد سياسة الولايات المتحدة الخارجية. ومؤخراً، أعلن الرئيس دونالد ترامب عن زيادة النفقات العسكرية، التي تبلغ 600 مليار دولار حالياً، بنحو 10 في المئة، أي ما يعادل 54 مليار دولار، غير أنه لا يمكن فهم جدوى مثل هذه الزيادة من دون تقديم استراتيجية واضحة، كما أن هذه الزيادة تأتي أيضاً بالتوازي مع خفض بنسبة 37 في المئة في تمويل وزارة الخارجية، حيث سيتم تقليص برامج المساعدات في المجال المدني على رغم أنه يمكن أن يكون لها دور مهم بالنسبة للأمن على المديين المتوسط والطويل، وبهذا يدعم ترامب المجمع الصناعي العسكري، الذي يُعد من دون شك اللوبي الأقوى في الولايات المتحدة، لوبي لا يرغب أحد في معارضته، سواء من الديمقراطيين أو الجمهوريين، وذلك باسم الحرص على أمن البلاد، والحال أنه من غير المؤكد أن تفضي الزيادة المستمرة في الإنفاق العسكري الأميركي حقاً إلى فائض في الأمن، والشاهد أن الميزانية العسكرية للولايات المتحدة كانت تقدر بـ280 مليار دولار عندما تعرضت الولايات المتحدة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر. وحتى الرئيس السابق باراك أوباما لم يجرؤ على معارضة رغبات المجمع الصناعي العسكري حتى لا يُتهم بالضعف، إذ على رغم أنه كان يرغب في الضغط على زر «إعادة الضبط» وبدء صفحة جديدة في العلاقات مع روسيا، فإنه لم يعد النظر في السبب الرئيسي الذي يسمّم العلاقات بين موسكو وواشنطن: ونقصد بذلك برنامج نظام الدفاع المضاد للصواريخ، الذي كان أوباما قد وصفه ذات يوم بأنه «نظام مبني على تكنولوجيا لم تثبت جدواها، وذو تمويل غير موجود، ومن أجل تهديد غير معروف». واليوم، بتنا أمام سباق تسلح جديد غير عقلاني على مستوى العالم، حيث تجاوز مستوى النفقات العسكرية المستوى الذي كان عليه زمن الحرب الباردة، والحال أنه أثناء تفكك العالم ثنائي القطبية وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق في 1990، قيل إن العالم سيستطيع أخيراً الاستفادة من «أرباح السلام»، ولكن هذه الاستفادة كانت قصيرة ومؤقتة في الحقيقة، إذ ما لبث الإنفاق العسكري أن عاود الارتفاع من جديد، وإلى مستويات أعلى. وهكذا، تم التخلص لفترة طويلة من «تهديد نزع السلاح»، مثلما قال أحد الجنرالات ذات يوم. بيد أن سباق التسلح يحدث أيضاً في آسيا، التي تشهد زيادة مستمرة في النفقات العسكرية الصينية، زيادة تؤدي إلى زيادة في النفقات العسكرية لليابان وبلدان أخرى في المنطقة. والحال أن اليابان كانت قد قررت منذ وقت طويل، وبشكل طوعي، ألا تتجاوز نفقاتها العسكرية 1 في المئة من ناتجها المحلي الخام، ولكن صواب ووجاهة هذا القرار أصبحا اليوم محل تساؤل في البلاد. وعلاوة على ذلك، فإن المداخيل المالية التي تتيحها زيادة الموارد النفطية لبلدان الخليج، إضافة إلى جو انعدام الأمن في الإقليم، دفعاها أيضاً إلى زيادة نفقاتها العسكرية. ومن جانبها، تعتزم البلدان الأوروبية زيادة نفقاتها العسكرية حتى تبلغ 2 في المئة من ناتجها المحلي الخام، مثلما تطالب بذلك واشنطن، حتى لا تتحلل من التزاماتها تجاه القارة العجوز. ونظام «الحد من التسلح»، الذي كان يحول دون الزيادة المستمرة في النفقات العسكرية إبان الحرب الباردة، لم يعد موجوداً اليوم، وهذا النظام كان قد أنشئ من قبل الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون والرئيس السوفييتي ليونيد بريجنيف، اللذين كانا يدركان أن انفلات سباق التسلح يمكن أن يقود القوتين العظميين إلى كارثة مالية، وأنه كان يخلق جواً من التوجس والارتياب في العالم. وهكذا، كان سباق التسلح عبارة عن حلقة مفرغة حيث كان كل طرف يقوم بزيادة إنفاقه العسكري خشية أن يبادر الآخر بذلك أيضاً. وفي نهاية المطاف، حفّز هذا النظام الجميع، ولكنه جلب انعدام الأمن لأنه كان يخلق حالة من التوجس وعدم اليقين، والحال أن الاستقرار يقتضي قدراً من وضوح الرؤية والقدرة على التنبؤ. غير أن المشكلة هي أنه إذا كان يكفي، في زمن الحرب الباردة، أن تتفق موسكو وواشنطن على الحد من إنفاقهما العسكري، فإنه لا وجود، في عالم منقسم، لمركز سلطة أو هيئة أمن جماعية: ذلك أن الجميع ينخرط في سباق التسلح مبرِّراً زيادة نفقاته العسكرية بزيادة نفقات البلدان الأخرى، التي تسلك هي نفسها طريق التسلح. وهكذا، باتت معظم بلدان العالم اليوم تولي الأولوية للجانب العسكري للأمن، الأمر الذي سيترجم إلى قدر أكبر من انعدام الأمن في أرض الواقع.