في أعماق الثقافة الشعبية العربية يكتسب كل ما هو دولي بريقاً خاصاً. وقد يرتبط هذا بتجربة الاستعمار، حيث إن ما هو أجنبي يبدو قوياً. ولا يزال حتى الآن شائعاً في العديد من البلاد العربية أن «المستورد» من البضائع، حتى من الفاكهة والخضراوات، هو الأفضل والأغلى سعراً. ويزداد هذا البريق الأجنبي إشراقاً عندما يأتي من المنظمات الدولية، على أساس أن هذه المنظمات، وفقاً لمواثيقها، هي فوق تمثيل أية دولة أو مصالح قومية، بل تعكس الضمير العالمي وتدافع عن قيمه وتقوم بتطبيق معاييره في مواجهة ألاعيب الدول التي تحاول تغليب مصالحها القومية. وفي استطلاعات الرأي التي أقوم بها ضمن مساق العلاقات الدولة، فإن أكبر أماني المتفوقين من الطلاب هي العمل في منظمة دولية. كما أن برنامج محاكاة الأمم المتحدة في الجامعة الأميركية، وهو أقدم وأكبر برنامج محاكاة عن هذه المنظمة خارج الولايات المتحدة، لا يزال يجذب أفضل الطلاب، وتكون المنافسة للالتحاق به في غاية في الصعوبة. وقد رأيت بنفسي عندما ذهبت مع هؤلاء الطلاب إلى الأمم المتحدة في نيويورك، كيف يشعرون بالفخر عندما يدخلون قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن، أو يتقمصون دور موظف دولي ويشعرون بأنهم على شفا تغيير العالم ودحض مصالح الدول الأنانية وضيقة الأفق. أثناء إعداد رسالة الدكتوراه، سنحت لي الفرصة للعمل في الأمم المتحدة (المقر الأوروبي في جنيف)، فرأيت المنظمة بواقعية تختلف عن مثالية الصورة لدى طلابي، وحتى الكثير من العامة، لذلك أشفق على طلابي وأحاول تحذيرهم من الاعتقاد بمثالية المنظمة الدولية، وأنها تعاني الفساد، حتى جاءت أزمة «إسكوا» في بداية الشهر الجاري. وكما نعرف، فإن «إسكوا» (ESCWA)، وهي الحروف الإنجليزية الأولى للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، هي جزء من الأمم المتحدة، مثلها مثل بقية المنظمات الإقليمية الخاصة بأفريقيا أو أميركا اللاتينية مثلاً، وتعتمد هذه المنظمات على عمل وتحليلات الخبراء المحليين، لكن معظم موظفيها الدائمين هم موظفون دوليون مهما كانت جنسياتهم، كما هي الحال مع الدكتورة ريما خلف (الأردنية الجنسية)، الأمينة التنفيذية للإسكوا منذ سبعة أعوام. وقد جاءت لهذا المنصب بعد مناصب سياسية عدة، سواء في الأردن، حيث كانت وزيرة للصناعة والتجارة (1993 - 1995)، ثم وزيرة للتخطيط (1995 -1998)، قبل أن تضم لهذه الحقيبة منصب نائب رئيس الوزراء (1999 -2000).. أو على المستوى الدولي، حيث يرتبط اسمها ببداية تقارير التنمية الإنسانية العربية ذائعة الصيت في سنة 2002. ورغم من حصولها على شهادة الدكتوراه في تحليل النظم من جامعة بورتلاند، فإن الجامعة الأميركية بالقاهرة كرمتها بالدكتوراه الفخرية في عام 2009. السبب المباشر للأزمة الحالية واستقالة الدكتورة ريما خلف هو استخدامها في تقرير أممي مصطلح «نظام آبارتايد» أو «تفرقة عنصرية» لوصف سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وذلك دون استشارة مقر الأمم المتحدة في نيويورك. ولما اتضح الأمر ومورست الضغوط لسحب التقرير أو تغييره، أعلنت الدكتورة ريما استقالتها. إن ذلك التقرير هو السبب المباشر للأزمة، ثم الاستقالة، لأن الضغوط عادة ليست جديدة، بل متراكمة حتى فاض بها الكيل، خاصة فيما يتعلق بإسرائيل. فالولايات المتحدة تستخدم كل نفوذها، وتقول الإحصائيات إن إسرائيل أكثر الدول استفادة من الفيتو الأميركي. الأمم المتحدة لا تمثل الضمير العالمي، كما يفترض ويعتقد الكثيرون. وبالتزامن مع أزمة «إسكوا»، تحل الذكرى العاشرة لصدور تقرير التنمية الإنسانية العربية، وكنت أحد مؤلفيه، حيث نتذكّر المعوقات التي وضعها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمنع نشر التقرير ولإبقائه في أدراج الأمم المتحدة، لكن أمام التهديد بالفضيحة، سُمح لنا بنشر التقرير، ودون وضع اسم الأمم المتحدة عليه. لقد نجحنا في نشره باللغتين الإنجليزية والعربية. بمعنى أنه في مواجهة تحيزات المنظمة الدولية، فإن التصميم والحسم واجبان.