قد يقرر الباحث، على سبيل المبالغة، بأن المشروع العربي وطنياً وقومياً، قد دخل مرحلة التفكك والتصدع، ومن ثم الدخول في مرحلة التحول إلى «فوبيا» من الذكريات المريرة، نعم إن رصد المسألة في الأوساط المتعددة من المجتمعات العربية، وخصوصاً في حقول الطبقات الدنيا والوسطى وما فوقهما قليلاً، يمكن أن يقدم صور ملحمة من الأسى والشعور بالإخفاق والتمزق حزناً على كومة من العقود التي مر فيها العالم العربي. وأول ما يلفت النظر أن ملحمة الأسى هذه تشير إلى أن مصدرها الرئيس تمثل في الداخل أو الدواخل العربية نفسها، قبل أن يكون في التدخلات الخارجية في شؤون العالم العربي. وإذا كان الأمر قد ظهر كما لو أنه خروج من المشروع العربي القومي والوطني، فقد راح كثيرون يضعون البديل الجديد في الطريق، أي بمشروع قلما ظهر وغاب في أزمنة سابقة وهو المشروع الطائفي. والجديد في ذلك أنه ظهر من دعاة هذا المشروع من لا ينتمون إلى العربية قومية ووطنية. لقد ظهر ثمن الطائفية الراهنة، وخصوصاً من قِبل إيران الشيعية، إنه الثمن الذي ما زالت بلدان عربية تدفعه، ومنها سوريا والعراق. ولكن هذا شيء، وشيء آخر الاعتقاد بأن «الزمن القومي الذي يشهد الآن آخر حروبه الخاسرة. وأما أفواج المتطوعين إلى المعركة الفاصلة فإنهم يصلون بعد فوات الأوان، كما هو شأن العرب في الزمن الحديث. إذ هم يعيشون زمنهم ويفهمون عالمهم بأفكار وأدوات العصر المنصرم. وهذا شأن الأمن الأمبراطوري» (علي حرب: أزمنة الحداثة الفائقة- بيروت 2005، ص766). وثمة إشكالية معقدة فعلاً تواجه الباحث في عمله داخل «البنية الوطنية». فهو يعتقد بالدور الكبير للمشكلات والقضايا التي يواجهها في «مرحلته الوطنية الداخلية المعيشة»، وهذا صحيح وفائق الأهمية في ضوء جدلية الداخل والخارج، التي تأتي في سياقنا الحالي فهو يلح على الداخل «داخله»، بعيداً عن داخل الآخرين الموازي زمنياً لداخله ذاك، إذ في هذه الحالة تبرز الأمور معوجة غير ذات حصيلة، ولا تمتلك حداً من الصواب التاريخي الفعلي. ومن ثم، فإن دائرة البحث ومجاله الداخليان، لا يلبثان أن يجدا نفسيهما أمام أبواب مغلقة. وهذا الموقف يبرز خصوصاً على صعيد العلاقة بين الداخل والخارج. ذلك لأن إهمال الخارج (وهو هنا العالم الآخر الأوروبي وغيره) لصالح التوسع في الاهتمام بالداخل، يُفضي إلى فساد الجدلية بين الحدين المذكورين. ونعني بذلك أن فئات من ذوي التوجهات الماضوية في الداخل العربي تضيع في تفاصيل موضوع بحثها، دونما التدقيق في الحد الثاني المعني، أي الخارج، تعبيراً عن إهمال أهميته وأحياناً خطورته المطاح بهما تحت ضغط الحالة الداخلية. وهكذا نكون قد دخلنا دائرة الصلب الديني أو القومي، الذي يقع الباحث العربي فيه حيال فكر الآخر. ولكن ذلك ما يفتأ أن يظهر للباحث، فيقع في حالة حيص بيص! إن جدلية الداخل والخارج تمثل أحد الأعمدة المؤسسة للبحث في الفكر العربي، بالتوازي مع الفكر الآخر (الخارجي). فهي مدخل إلى ما يحدث في العالم العربي، حينما يلاحظ المدقق كيفية تنصل الزعيم من دمار بلده على يديه، في حين يُعلن أن هذا الدمار أتى من الخارج. وقد نضع يدنا هنا على خطوط متشابكة بين الداخل والخارج تشي بأن الفعل الخارجي لا يظهر دائماً خارجياً. وإنما يتلبس بلبوس الخارج إذا كان إيجابياً. ولكن للمفارقة نلاحظ أن كثيراً من الفاعلين في الداخل يحققون انتصارات على داخلهم، وخصوصاً حين يتجلى بشعبهم، ولكنهم يبقون خارج دائرة الانتصار، إذا تحول الموقف بينهم وبين الأعداء في الخارج. إن ذلك كله يضع المصير التاريخي للمشروع الوطني القومي أمام دائرة الضبط النظري التاريخي والبنيوي، الذي يكتشف دائرة المفاهيم التي يجري التعامل بها مع المصير المذكور على نحو لا يفتقد المصداقية، كما يحدث مع الباحثين حين يأخذون موقع الفاعلين الباحثين والسياسيين القادرين على إحداث تقدم في عملهم فقط، أو حين لا يخرجون عن مواقع القادة السياسيين الباحثين عن أمجاد خارج دائرتهم. إن سؤالي التفكك والتقدم في موضوعنا لا يمكن أخذهما بعين الاعتبار خارج المستوى التاريخي والبنيوي.. أما في ما يتصل بالموضوع السوري خصوصاً والعربي عموماً فالأمر يتطلب ضبط علاقة الداخل والخارج، وعلى نحو لا يفقد بوصلة التقدم والتفكك، إضافة إلى المصطلح الأكبر للوطن.