آخر مرة قابلت فيها السيد ياسين قبل رحيله كانت السنة الماضية في القاهرة، وقد تعلق حديثنا بنهاية المثقف الموسوعي في العالم العربي، أي المثقف الذي بمقدوره أن يتجاوز تخصصه الجامعي الدقيق، ويتحدث في مختلف أوجه الفكر والثقافة، فيأخذ من كل موضوع بطرف كما كان يقول القدماء. ولعل السيد ياسين هو آخر هذا النموذج من المثقفين الذي عرفته الساحة المصرية والعربية بقوة، وأعني هنا بالأخص الجيل الذي برز في الساحة الفكرية والأيديولوجية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وما يميز هذا الجيل هو أنه درس في غالبه في الجامعات الأوروبية أو على يد مدرسين أوروبيين واطلع اطلاعاً قوياً على الموروث العربي الإسلامي، ومارس العمل السياسي إما ضمن حركات التحرر الوطنية أو في التنظيمات الأيديولوجية الكبرى التي عرفتها الساحة العربية وقتها، وكتب في المنابر الصحافية للوصول إلى القطاع الشعبي العريض من منظور تعبوي رسالي. كان المثال الأول الأبرز على هذا النموذج في مصر هو طه حسين الذي درس في الأزهر والسوربون معاً، وحاول تحديث الثقافة العربية من خلال تطبيق المناهج النقدية والاجتماعية الجديدة على الأدب والتاريخ، وطرح مشروعاً تنويرياً لنهوض المجتمع المصري (كتاب مستقبل الثقافة في مصر) ومارس العمل السياسي وزيراً للتربية، وكتب المقالات السياسية والفكرية في الصحافة السيارة، فامتد تأثيره إلى القاعدة العريضة. وفي الساحات العربية نماذج عديدة من هذا النموذج، لا نحتاج إلى ذكرها، كادت تختفي في السنوات الأخيرة التي شهدت انفصاماً مزدوجاً بين السياسي والمثقف من جهة والخبير والمثقف من جهة أخرى. لم يعد السياسي هو المثقف العضوي الملتزم الذي يرى في العمل السياسي حقل تطبيق أو تجسيداً لمشروعه المجتمعي وإنما أصبح السياسي أحد النموذجين: الموظف الحزبي الذي يمارس نشاطه العام ضمن محددات النسق الإداري للدولة، أو ناشط العمل الأهلي الذي يمارس السياسة تحت غطاء المطالَب الحقوقية والمدنية. الموظف الحزبي هو الذي أفرزته الديمقراطيات العربية الناشئة التي حافظت فيها السلطة القائمة على مركز القرار من خلال قطب سياسي مركزي (حزب الدولة) يهيمن على الحياة السياسية وعلى المجالس المنتخبة، ليس له مشروع إيديولوجي أو أرضية ثقافية، زعيمه هو في غالب الأحيان موظف إداري لا يتجاوز دوره تسيير الآلية الحزبية في علاقتها بالنظام الحاكم. أما العمل الأهلي المتمحور حول ملفات حقوق الإنسان فهو الإطار الجديد للعمل السياسي في بلدان عديدة، وخلفيته هي الالتفاف على قيود ومعوقات العمل السياسي والاستفادة من الدعم الخارجي وهو في أساسه قائم على استيراد وتسويق خطاب هيئات الدفاع عن حقوق الإنسان الغربية لا مستنداً لقاعدة فكرية حقيقية. أما الخبير فهو النموذج الجديد من المثقف الذي أفرزته ديناميكيات ثلاث: القطيعة بين التكوين الجامعي والحقل الثقافي العام، وانحسار الإيديولوجيات التعبوية التي أطرت في الماضي دور المثقف المجتمعي، وانبثاق الحاجة في مجالات معينة (مثل المجال الاقتصادي التنموي) إلى متخصصين فنيين لا مفكرين مستغلين بالعمل النظري (المثقف المقاول حسب عبارة المرحوم محمود عبد الفضيل). قبل سنوات كنت أتحدث مع أحد كبار الناشرين العرب حول أزمة الكتاب العربي، وقد قلت له إن هناك نوعاً من الكتاب اختفى هو ما أسميه «الكتاب الحدث» أي الكتاب الذي كان عندما يصدر يكون حدثاً ثقافياً بارزاً يترك أثراً واسعاً في الساحة الفكرية بل في الحياة العامة في أجملها. وتلك حال كتب معروفة مثل «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبدالرازق و«في الشعر الجاهلي» لطه حسين في عشرينيات القرن الماضي، و«الأيديولوجيا العربية المعاصرة» لعبد الله العروي الصادر في بداية التسعينيات، ومن هذا النوع من الكتب أيضاً «نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري الذي صدر في بداية الثمانينيّات. والأسماء المذكورة كلها من أعلام الثقافة العربية المعاصرة وتنطبق عليها سمات المثقف كما حددناها، وهي سمات لم تعد تتوافر اليوم إلا في عدد محدود من الكُتاب كان من بينهم زميلنا السيد ياسين الذي دخل للعمل الفكري من بوابة القانون قبل أن ينشغل بالتحليل الاجتماعي والسياسي ويتداخل في أعماله التأسيس النظري والتشخيص النقدي والمواقف الملتزمة في الصراع السياسي والأيديولوجي. ما كان يميز السيد ياسين هو الشغف بالقراءة والصبر عليها على رغم المتاعب الصحية والتقدم في العمر، وكان قارئاً نهماً باللغات الثلاث التي يتقنها، مما هو جلي في مقالاته التي لا يخلو أي منها من إحالات واسعة إلى مستجدات الكتب وآخر الإصدارات الفكرية التي يحرص على أن يتقاسمها مع قارئه في مرحلة كثر فيها الكتاب وقل القرّاء الذين هم المثقفون الحقيقيون.