وقت ظهور هذه السطور للنور تكون الأعمال الأولية للقمة العربية في دورتها الثامنة والعشرين قد انطلقت في العاصمة الأردنية عمّان، مع ما تحمله من آمال عريضات لجهة تفعيل العمل العربي المشترك، بما يمكن الدول العربية من مواجهات التحديات الآنية الجسام. تأتي القمة وسط أجواء ومناخات دولية وإقليمية مغرقة في الاضطراب، تكاد تصل إلى فوضى كونية، تبدأ من عند رئاسة أميركية غير متوقعة، وعودة روسية براجماتية للشرق الأوسط، وبين هذا وذاك تمضي مشاريع إقليمية كبرى، لا مجال للحضور العربي فيها تبدأ من تركيا، وتمر بإيران وتصل إلى إسرائيل، وكأن لعبة الأمم التى حدثنا عنها «مايلز كوبلاند» لا تزال فصولها تعرض على الساحة الكونية عامة والعربية خاصة. على أن السؤال الجوهري والمثير، والحساس في ذات الوقت: «هل لنا أن ننتظر تغييراً حقيقياً أو صحوة عربية خلاقة، أو قرارات مصيرية تعقب تلك القمة؟» القضية ليست في اللقاءات العربية على مستوياتها المختلفة، بل في الرؤية العربية والمشروع العربي النهضوي الغائب عن الأفق العربي، ما يجعل الدول العربية جزراً منعزلة. حسناً تحدث الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد أحمد أبو الغيط وله كل التقدير والاحترام عن المنعطفات التي تواجه الأمة، والأزمات التى تحدق بها. غير أن التحول من الواقع إلى المستقبل يقتضي ما هو أكثر بكثير من بيان ختامي، أنه يوجب على العرب الانتقال من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء. مؤلم أشد الإيلام حال العلاقات العربية - العربية، تلك التي تنبأ عنها أشهر المؤرخين في القرن العشرين «أرنولد توينبي» قبل أربعين عاماً، بأنها ستنصهر قريباً جداً في «الدولة العربية الواحدة أو الاتحادية». على عتبات القمة، نبقى في حاجة ماسة وعاجلة لاستعارة إيجابية لأفكار ميخائيل جورباتشوف عن «البريسترويكا والجلاسنوست» أي المكاشفة والمصارحة، ومن ثم إعادة البناء. ولعل الحقيقة الأولى الثابتة بيقين هي أن العالم العربي قد توقف عن الإسهام في صناعة الحضارة البشرية منذ العصور الوسطى، وفقد العرب روح المبادأة أو المبادرة، ثم جاء الاستعمار الأجنبي ليكمل حالة الموات العربي، وأعقبه مرحلة النهب الإمبريالي والتبعية، فضاعت الروح العربية في وسط الضباب والغبار، وبات التحديث صنو التغريب أحياناً، وأحياناً أخرى كان الهروب من الواقع إلى الماضي التراثي، فكانت تراثية التراث وماضوية الماضي، واجترار العصور القديمة، وبالاً على الإنسان العربي، وربما شهدنا بعضاً من النتائج عبر السنوات الست المنصرمة. ما الذي يحتاجه العالم العربي على عتبات القمة؟ حكماً قبل الإدانة والشجب، الرفض والقبول، هناك حاجة إلى مشروع عروبي نهضوي حقيقي، ومن دونه يكون ما يجري على الساحة حرثاً في المياه لا أكثر. غير أنه ما من مشروع من دون أهداف واضحة واستراتيجيات شافية وآليات وافية، وهنا يصدق المفكر المصري، الراحل الكبير، الأستاذ السيد يسين في إشارته إلى أن جوهر المأزق الحضاري العربي يكمن في غياب «الرؤية الاستراتيجية» Strategic Vision. تلك التى تأخذ في سياقاتها وأطرها الصورة السياسية والاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، الأمنية والعسكرية، للعالم العربي في العقود القادمة. العمل كردات فعل على أحداث بعينها لم يعد أمراً خلاقاً في حق (أمة اقرأ)، والتي باتت لا تقرأ، إلا بعض التجارب الحديثة في عدد من البلدان حيث قيادات بعينها تؤمن بأن: «الذين يقرؤون لا ينهزمون»، وأن المنتصرين يصنعون التاريخ عبر صياغته في الواقع. الناظر للولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، ومهما اتفقنا أو افترقنا من حولها، يدرك أن من أسباب قيادتها وريادتها، حتى وإنْ كانت الأولى بين متساويين، رؤاها الاستشرافية للمستقبل، والوثيقة المعروفة باسم «تخطيط المستقبل الكوني.. العالم في 2030» التي أعدها مجلس المخابرات القومي في واشنطن خير نبراس، يمكن للجميع أن يقتدي بروحه وليس بنصوصه، روح التجديد والتخليق، روح الاستراتيجيات المستنيرة، التي لا تنتظر حلول الكوارث أو الحوادث، بل تقطع الطريق عليها. العرب اليوم محاطون بأربعة مشروعات إقليمية استراتيجية، المشروع شرق الأوسطي الذي يحاول دمج إسرائيل ترغيباً أو ترهيباً، والمشروع المتوسطي العربي الأوروبي المعطل في ظل أحوال أوروبا المضطربة، ثم المشروع التركي وعودة العثمانيين الجدد عبر أوهام الماضي الذي لا يعود، ثم المشروع الثوري الإيراني بخطاياه المميتة لا العرضية، والذي يحمل للعرب أحقاداً تاريخية، وحزازات عقائدية تحتاج قراءات موسعة بعينها. حان وقت الخلاص، والساعة تشير عقاربها إلى الوقت الملائم لمشروع عربي عصراني يتعاطى مع المشروعات الإقليمية المحيطة به بمناورة ومداورة عالية الذكاء، وفي ذات الوقت يكون قادراً على «أن يفكر كونياً Globally، وأن ينفذ محلياً»، وقد كانت هذه الآلية وراء ظهور مصطلح جديد يحاول التأليف بين الدولي والمحلي أطلق عليه الـ«Glocalization». هل الطريق ممهد لمثل ذلك المشروع؟ صعوبات بالغة في الطريق، سيما إذا نظرنا إلى حالة الجمود السياسي الأرثوذكسي التي تلف عالمنا العربي، عطفاً على أزمة خطابات عدة، منها الديني ومنها الثقافي، وبين هذه وتلك لا مشروع عربي إلا إذا خلص العقل العربي من حالة الانسداد التاريخي التى يعيشها. إذا قدر للمرء أن يقترح شيئاً على المجتمعين في عمّان، فربما يتعلق الاقتراح بإتاحة الفرصة للأجيال الشابة عربياً، عساها قادرة على تحقيق الحلم العربي الذي أخفق في الوصول إليه الآباء والأجداد من قبل. *كاتب مصري