يمكن أن تختلف سياسياً أو فكرياً كما تشاء مع المفكر الكبير الأستاذ السيد يسين، الذي غادر دنيانا قبل أيام، ولكن ليس بوسعك أن تنكر أن الرجل كان عميق الفهم، واسع الصدر، غزير الإنتاج، ظل دؤوباً على القراءة والاطلاع حتى آخر عمره، وكأنه لا يزال شاباً صغيراً في عمر التكوين. وقبل كل هذا كان يحدب على كل موهبة تتفتح أمام عينيه، ولا يجد أي غضاضة، وهو من هو، أن يقول لأحد الشباب: «أنت كاتب رائع»، أو «أنت باحث ممتاز»، ثم يقدم له النصيحة الذهبية: «لا تكف عن القراءة.. طالع كل ما تقع عليه عيناك، ودوِّن ملاحظاتك باستمرار، ولا تضيعها أبداً». وقد كان لي نصيب من هذا الحدب، حين صدرت عام 2003 عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الطبعة الأولى من كتابي «النص والسلطة والمجتمع.. القيم السياسية في الرواية العربية»، فبعد أيام من طرح الكتاب للقراء، وجدت المفكر الأستاذ نبيل عبدالفتاح يهاتفني قائلاً: «الأستاذ السيد يسين معجب بالكتاب وطلب مني رقم هاتفك». لم أنتظر مهاتفته، بل وجدت أن من اللباقة أن أبادر أنا بالاتصال به، وهاتفته، وكانت المرة الأولى التي أسمع فيها صوته وأرى وجهه بعيداً عن المؤتمرات والندوات وبرامج التلفزيون والإذاعة. قال لي فور أن قدمت له نفسي: «ما هذا الكتاب المهم؟ أريد أن أراك». وضرب لي موعداً في مكتبه بـ«الأهرام»، فذهبت لأجده غاطساً بين الكتب والأوراق. يومها وللمصادفة، كان يقرأ بحثاً للمفكر الباكستاني طارق علي، وسألني إن كنت أعرفه، فأجبته: لا. فراح يشرح لي أفكار الرجل وإسهاماته، ويذكر أمامي بعض عناوين كتبه، وينصحني بقراءته، وقد فعلتُ. سألني عما أقرؤه الآن، وناقشني فيه. ثم سألني عما أكتبه الآن، ومنحني اقتراحاته، ونصحني بأن أواصل الكتابة في موضوع «علم اجتماع الأدب» وعلاقة الظاهرة السياسية بالظاهرة الأدبية، وتطرقت في حديثي معه إلى كتابه الرائد «التحليل الاجتماعي للأدب» وقلت له إنني حين قرأته ألهمني فكرة أطروحتي للدكتوراه. يومها قال لي: «أتمنى أن أجد وقتاً لأعود إلى تحليل الأدب من الزاويتين الاجتماعية والسياسية». بعدها ظل يطلب مني أن أمده برواياتي ومجموعاتي القصصية، حتى يكون بوسعه أن يكتب عنها، بل قال لي: «أريد أن أكتب كتاباً عن جيلك من الأدباء فلكم في عنقي دَين، وأرى أنكم أضفتم إلى فن الرواية والقصة العربية الكثير». وامتد الخيط في هذا الاتجاه لأكون على موعد مع تشجيع جديد منه، إذ هاتفني وقال لي: قرأت روايتيك «شجرة العابد» و«سقوط الصمت»، وراح يدلي برأيه في الروايتين، ثم فاجأني بأن قال: «لو أخلصت لهذا الفن ستبلغ فيه مكانة رفيعة»، وعددتها مجاملة منه كعادته، أو حدباً جديداً من ذلك الذي لم يبخل به على كثيرين، ولكنه حين قابلني بعدها راح يكرر ما قاله، وطلب مني أن أعطي وقتاً أطول للأدب، والتزمت بنصيحته. وهناك نصيحة أخرى قدمها لي بعد أن حكى تجربته الخاصة، وهي أن الكاتب أو الأديب أو المفكر أو الفيلسوف أو أي صاحب مشروع أو مسار في الكتابة يجب ألا ينسى مسؤوليته الأسرية، وربما هذا ما جعلني أتخذ قراري منذ ست سنوات بالاستقالة من عملي والجلوس في بيتي للكتابة، إذ رأيت أنني إن التزمت بساعات عمل، ثم عدت إلى البيت لأكتب، وليس لي مفر من الكتابة، سيكون هذا على حساب أسرتي. وكان للأستاذ السيد يسين دور في قراري هذا، على رغم أنني لم أخبره بذلك، وخاصة أنه كان يقول لي دائماً: «لو توفر لي ما يلبي احتياجات أولادي وأحفادي، ولهم في عنقي الكثير، لتفرغت لكتابة عمل بحثي كبير وموسوعي، أتمنى أن أنجزه في يوم من الأيام». فكنت أقول له: «كتبك عديدة ومفيدة»، فكان يرد: «لا يجب لأي كاتب أن يقنع بما كتب، كماً وكيفاً، وكم سعيت ليكون لي مشروع علمي كبير»، وفي هذا أشار إلى موسوعة الدكتور عبدالوهاب المسيري. لم تمهل الظروف ولا العمر ولا الجهد السيد يسين كي يكتب هذا العمل الموسوعي، وإن كان قد حرص على أن تنتظم مقالاته ودراساته في مجرى محدد، فكان يضع عنواناً عريضاً لفكرة ويعالجها من شتى زواياها في مقالات متتابعة إلى أن تكتمل فينشرها في كتاب. وكان من أهم الأفكار التي اهتم بها، مجتمع المعرفة، وثورة الاتصالات، وبرامج التنمية، والتحولات في النظام الدولي، وأدوار المثقفين، والنظام الإقليمي العربي، ونقد الفكر الديني، والتحليل الاجتماعي للأدب، والشخصية القومية، وقضايا إسرائيل والصهيونية، ثم ثقافة السلام. وقد شاركه كثير من الباحثين والمفكرين في الانشغال ببعض هذه القضايا، ولكن يبقى أهم ما ميز السيد يسين هو أنه امتلك قدرة على بناء المؤسسات وإدارتها، ولعل تجربته في مركز «الأهرام» خير شاهد على ذلك.