لقد أثار قضية «نحن وهم» بوش الابن عندما غزا العراق وتركه يباباً يعشعش فيه «داعش» والطائفيون من ورائه. وزاد عليها شعار «من ليس معنا فهو ضدنا»، وتناسى أن بين المعيَّة والضدية درجات ودركات شتى من المصالح المشتركة، والتحالفات الضرورية، والصداقات الدائمة، أو المؤقتة، والتعايش الإجباري بحكم طبائع الإنسان المدنية والاجتماعية، إذا كان السلم العالمي مطلباً ملحاً في زمن يريد فيه الإرهاب والتطرف باتجاهين حرق الأخضر وهدم كل قائمٍ من بنيان الحضارات، وفجر المشتركات الإنسانية على مذبح الطائفية، وأشباهها من المذاهب والأفكار التي تعيد البشرية إلى عصر الهمجية السوداء. ها قد ذهب بوش الابن بما حمل، وجاء أوباما وواصل حتى زمن ترامب الذي يودّ فعل الأكمل في هذا الاتجاه المعاكس لمطالب كل شعوب الأرض حتى لو وقف إرهاب اليمين المتطرف ضد رغبات وتطلعات الإنسانية الحقة في العيش المشترك رغم أنف الرافضين. لأننا لو استخدمنا لغة المصالح المتبادلة بين الدول والحكومات والشعوب والمجتمعات كافة، فإنها تصب ضد كل متطرف من أي مكان، ولابد من الحساب الآني لمعادلة السلم العالمي. ولن نذهب بعيداً، فإن سياسات «نحن وهم» واضحة وجلية في ثنايا السياسات الأميركية «الترامبية»، فهي التي رسخت وتدخلت في منع دخول فريق نسائي رياضي من التيبت للمشاركة في إحدى المسابقات هناك في أرض تحقيق الأحلام التي قُيدت باللامنطق، وهي السياسة التي اضطرت المخرج الإيراني الذي فاز عمله بالأوسكار للاحتجاج على عدم حضور هذا الحفل البهيج، وهو ما لم يحصل لأميركا طوال أكثر من ثمانية عقود من تاريخ هذه الجائزة المفخرة أمام شعوب العالم أجمع، وليس الشعب الأميركي فحسب، وذات الفعل السلبي الذي أوقف تأشيرة السوري الذي فاز فيلمه الوثائقي عن بلده المدمر، فلم يكرم إلا بالمنع من وجوده على هذه المنصة العالمية الأميركية. وما يحدث في أميركا يخرج أميركا عن مسارها طوال أكثر من قرنين منذ النشأة الأولى، وهو الذي حدا «بفرهادي» لأن يقول إنه يوازي بين «المتشددين» في الولايات المتحدة وإيران، فكل منهم يؤطر العالم ضمن عقلية «نحن وهم». تعلمنا منذ عقود من الغرب بكل تنوعاته السياسية وممارساته ومنهجه الديمقراطي في إدارة الشعوب ضرورة الفصل بين السياسة وبقية مجالات العمل المجتمعي من الاقتصاد والثقافة والتجارة مروراً بالرياضة والفن، وما إلى ذلك. فلمَ نعطي الإرهابيين والمتطرفين من كل حدب وصوب فرصة لتدمير التعايش والتسامح، وتمرير جرائم على حساب البناء المستدام للحضارة البشرية في مسحتها الإنسانية؟ دعونا نقول: لماذا لم تطرد بريطانيا ثلاثة ملايين إنسان يعملون فيها قدموا إليها تحت مظلة الاتحاد الأوروبي بعد أن دخلت مرحلة «البريكست»؟ لماذا لم تقطع صلاتها المتنوعة مع 27 دولة لا زالت تعيش بسلام وأمان تحت ذات المظلة السياسية الجامعة؟.. لأنها واعية بمتطلبات المرحلة التي تستدعي رباطاً أقوى وسياسات أكثر حكمة من ذي قبل. عندما زارت هيلاري كلينتون الصين في فترة توليها لوزارة الخارجية الأميركية قالت للصينيين عبارة واحدة فقط لا غير، بما معناه «إن سقطت الصين سقطنا وإن صعدت صعدنا»، وهذه رسالة بليغة ومختصرة وتعبر عمّا قالته الصين أيضاً عن أميركا على مدى فترات: لو عطس أميركي في واشنطن لَشمَّته الصيني في بكين. هذه المعادلة وإن كانت تذهب غالباً إلى المجال الاقتصادي إلا أن الاقتصاد لا يمكن فصل أثره عن السياسات العامة للدول، فمن هنا كانت نصيحة كسنجر لأوباما هي هي مع طول المدة وتغير الكثير من المعادلات الدولية، إلا أنه سطر لأوباما ذات النصيحة الثمينة بإياك أن تفكر يوماً في محاربة الصين ولو بعد حين. وذات الرجل، أعني كسنجر، يعد أحد أهم صانعي السياسة الأميركية حتى زمن ترامب الذي أعطاه حق الاتصال به، وهو الوحيد طوال أربع وعشرين ساعة، وقد ساهم معه في تعيين ثلاثة وزراء سياديين في الخارجية والدفاع والأمن القومي، كل ذلك من أجل إذابة جليد «نحن.. وهم» فكلنا في ذات المحيط نعوم.