أغلب بلدان الوطن العربي، على المستوى الرسمي، تدعو للشفقة والأسى، خصوصاً حينما تنظر إليها من الخارج، بعد أن خبَرتَ الداخل، وتأكدت استحالة تعديل أموره حتى البسيط منها. التأمل في شأن أهلنا العرب، يضيف إلى محنة الشعور بالغرق اليومي، شجناً قد يفتك بصاحبه. هكذا تبدو الأمور مغلقة، ولك أن تحاجج بها هؤلاء المتفائلين ذوي الأبصار الحديد، ممن يرون في الظلمة بصيص أمل، وفي الجبال الصلدة كوة انفراج على سهول لا متناهية من الخضرة ! يستطيع المرء دوماً أن يحتفظ بتفاؤله، لكن عليه اختيار المكان السليم للتمتع بفضائله. الوطن العربي في شقه الرسمي، ليس مناسباً لمتتاليات هذا النوع من التفاؤل. (عودة الاستعمار إلى البلدان العربية!). صارت لدى بعضنا العرب (أمنية) مألوفة لا يعقبها أي انفعال، وحينما تدقق النظر في هذه الأمنية (الخبيثة) التي أنتجها تبلد الأوضاع قبل العقل، تجد أن السيلَ وصل منتهاه لدى المتبرمين من الحال اليومية الخانقة، وأن الوضع المعيشي والنفسي والاجتماعي، لم يعد ينفع فيه لا كلام ولا حسام كما يقال، كما أن السماء كفت عن معجزاتها منذ ألف وخمسمئة عام، حينما تنزّل الكتاب الحكيم. لكي تفهمه، كان على الأميّة أن تكون صفراً، وهي ليست كذلك حتى اليوم، بل في ازدياد، وعلى المعرفة أن تكون مئة بالمئة، وهي لم تتحقق، وتفصلنا عنها مراحل طويلة. وعلى المواطن أن يفصِلَ الدين عن الدولة، وهذه تحتاج، في بلداننا العربية، إلى نسخة مطوّرة من داحس والغبراء. ما الذي يراه بعضنا العرب حينما تداعب خيالاته عودة الاستعمار مجدداً؟ (اللغة الواحدة، العدو الواحد، الهدف الواحد). حسناً، ما هو العدد (واحد) في هذا التراتبية؟ لا يبدو أنه ذا معنى صوفي - روحي قادم من ضريح ابن عربي أو البسطامي، بل قد يكون، عند تفكيكه، عمليّاً جداً لا يخلو من منطق: بعد الحرب العالمية الثانية - خمسينيات القرن الماضي - أطل زمن جديد سمّاه المتحمسون (عهد الاستقلالات). حينما سرت في جسد الأمة رغبة جامحة في السيادة، وهذه ما كانت لتتحقق إلا بالاستقلال، الذي اقتضى بروز حركة تحرّر عربية على طول الجغرافيا وعرضها، التي ستفيض مستقبلاً، لتعم دائرة جغرافية أخرى، أفريقيا لتبقى لأهلها خضراء زاهرة. الاندفاع التحرري العام وقتذاك، محفزاته كانت واضحة جداً، أهمها: طرد المحتل، تحقيق السيادة، تأسيس الدولة الوطنية المستقلة. نجحت الطاقة النضالية الجامعة بطرد الاستعمار، وتحقيق السيادة، لكن حينما جاء دور تأسيس الدولة الوطنية، توقفت الجهود وتفرق الجمع. اختلفوا على السؤال الديمقراطي: كيف سيكون دستور البلاد، ما شكل الحكم، من أين نبدأ؟ هذه الأسئلة، كُنت تجد (إجابات) عنها لدى الأطراف كافة، لكن كل إجابة كانت مختلفة عن الأخرى: الجميع كان يعتقد أن طرحه هو الأسلم والأصح، فحسب أن من حقه احتكار الحقيقة، واحتكار السلطة. وظلت الحال على هذا المنوال في دنيا العرب إلى يومك هذا. كأنهم لم يكونوا، بالأمس، موحدين في مواجهة المحتل وطرده. إن الاستعمار، في تلك اللحظة التاريخية الفارقة، كان سبباً في توحيد (هوية العدو، توحيد لغة الأمة، وضوح وتحديد هدف المعركة). يُفهم من السياق، أن من قالوا بعودة الاستعمار مجدداً، هدفوا من وراء ذلك إلى تكرار تجربة (تحديد العدو، توحيد لغة الأمة، وضوح تحديد هدف المعركة)، حتى لا تبقى تلك التجربة الفارقة تاريخياً، يتيمة. لكن ما يبدو مؤكداً في صورة خيبة: إن الاستعمار لن يعود، ولغة الأمة، عند عودته، ستفرّخ أكثر من لغة، أما المعركة فلن تأت، وإن أتت فالهدف من الانخراط فيها لن يكون موحّداً، بل سيكون لكلٍ منا هدفه الخاص.