شوارع مكتظة بنساء آسيويات يرتدين أزياء سوداء، لا يظهر منهن سوى عيونهن، وبالكاد، ورجال ملتحون يرتدون سراويل فضفاضة، حاملين شعارات التنديد والتهديد والوعيد لكل من يخالفهم في الرأي أو يعارضهم في الفكر، بالذهاب إما إلى الموت أو الجحيم، أو إليهما معاً. وكل هذا الكرنفال التنكري المرعب الآتي من عوالم العنف والصخب، يجري وسط بلدة تحمل كثيراً من اليافطات المعنونة بـ«الأوردو»، قد تجعلك تشعر أول وهلة كأنك في شوارع بيشاور أو قندهار، ولكن في الحقيقة أنت في بلدة «لوتن» على بعد 50 ميلاً فقط شمال العاصمة البريطانية لندن، التي تعرف هي أيضاً بكثافة وجود الجاليات المسلمة فيها، وبتحولها في فترة معينة إلى ملاذ من الملاذات الآمنة والحاضنة لكثير من «أمراء» و«نشطاء» وشذاذ آفاق الجماعات المتطرفة في الكثير من الدول المسلمة، وهو حال جعل البعض في الإعلام الغربي يصكُّ لعاصمة الضباب ذلك الاسم الشهير «لندنستان»، تعبيراً عن وجود عالم آخر موازٍ على هوامش هذه المدينة ينشط فيه الغلاة والمتطرفون من كل جنس ولون، بعدما دخل كثير منهم كـ«لاجئين»، أو «مهاجرين» أو مهاجرين سريين. وكان بين مسيرة الصخب والرعب في شوارع «لوتن» متطرفون يكفي مظهرهم والشعارات الغريبة التي يرددونها للدلالة على الروح الظلامية والتكفيرية المعششة في أذهانهم، وعلى ظلام وأوهام التنطع والشطط والغلط التي يسبحون في سراباتها البعيدة عن فهم روح ومقاصد الدين الحنيف، وهم في كل ذلك يسيئون للإسلام وصورته الغراء السمحاء. وكانت بينهم مراسلة صحفية جاءت من إحدى القنوات الإعلامية لتصوير واقع وحال أولئك المتشددين بفكرهم، المحرضين ضد أنفسهم، محققة، من حيث أرادت أو لم ترد، ومن خلال تصوير فيديو لا يتجاوز زمنه الـ3 دقائق، لثلة من المتنطعين، ضربة تشويه لصورة «أمة المليار»، التي سينظر إليها البعض في الغرب من خلال سلوك أولئك الغلاة ورفضهم التعايش، وفكرهم المتطرف المنحرف، ورفضهم الآخر في قعر داره. وأعتقد، بكل أسف، أن ذلك المشهد لتظاهرة مسلمي بلدة «لوتن» البريطانية كفيل وحده بتشويه الصورة الحضارية للإسلام والمسلمين في بريطانيا لعقد من الزمن، على رغم سعي معظم الدول الإسلامية لتصحيح الصور النمطية السلبية والأحكام المسبقة والأفكار المغلوطة التي تركزت في أذهان العالم عن ديننا الحنيف، دين الوسطية السمحة والأخلاق الحسنة. فتلك التظاهرة التي خرج فيها مسلمو «لوتنستان»، والفيلم القصير الذي أعدته مراسلة إحدى منصات الإعلام الغربي عن المتظاهرين، يغذيان الحملات المتكررة التي يسعى فيها كثيرون للنيل من صورة الإسلام والمسلمين. و«لوتن» عادة ما كانت قبلة للإسلامويين المتطرفين الذين يسعون لنشر أفكارهم الانعزالية الضلالية، فكثافة وتركز المسلمين فيها، ومسافتها القريبة من العاصمة لندن، تجعلانها مكاناً مناسباً لهم يقبعون في أزقته الخلفية بأفكارهم «التورابورية» الضالة، مستغلين الحريات التي يتيحها مجتمع مفتوح كالمجتمع البريطاني، وبدلاً من أن يكونوا ممتنّين لبريطانيا وسلطاتها المنفتحة المتسامحة التي تصبر على جهلهم وقلة عقلهم، ويقولوا لها: شكراً بريطانيا، نسمعهم في الفيديو يرددون بكل عنف لفظي وصلف: المملكة المتحدة إلى الجحيم، الشرطة البريطانية إلى الجحيم! إن علينا جميعاً كمسلمين تنسيق الجهود والعمل بشكل جدي حثيث على تصحيح الصور النمطية والأفكار المغلوطة عن الإسلام في الغرب، ووضع الخطط والاستراتيجيات الكفيلة باستنقاذ صورة ديننا الكريم، والعمل وفق طرق وأسس علمية لمواجهة ما يروجه بعض الإعلام الغربي من مغالطات عن الإسلام والمسلمين، وتوحيد الجهود وتوزيع وتوسيع أنواع المبادرات، وألا يكون التركيز على العمل الدبلوماسي فقط، بل لابد أيضاً من دور للدبلوماسية الشعبية، ولكل فرد مسلم، فجميعنا مسؤولون عن ذلك، وأفضل طريقة لتقديم مكارم وحقيقة ديننا الحنيف للعالم هي أن نكون دعاة إليه بأخلاقنا وتسامحنا وتعاملنا مع الآخر على أسس المودة والأخوة الإنسانية، وروح التعارف والتعايش والتعاون والتضامن لرفعة الإنسان، وعمارة العالم. ولابد أيضاً من التواصل مع المساجد والأئمة والتدخل في الوقت المناسب لتصحيح المفاهيم ومواجهة الفكر المتطرف، وتبيان علاقة الإسلام التاريخية بالغرب، ودور الثقافة والحضارة الإسلامية في بناء نهضة الغرب الحديثة. وهذا أقل الواجب لمواجهة ما صارت إليه صورة الإسلام من محاولة وضعه في «قفص الاتهام» من قبل الإعلام الغربي الذي يروج لصورة مغلوطة عنه، فدقيقة تشويه واحدة في الإعلام قد تذهب بجهد عام كامل من الإعداد والعمل تقوم به المؤسسات الدينية الكبرى في نشر سماحة الدين. وعلى رغم أننا لسنا محتاجين لتوضيح براءة الإسلام والمسلمين، بل وجميع الأديان من هذه الأعمال المنحرفة المتطرفة التي ترتكب باسم الدين، فإن السؤال الذي يجب أن يطرح هو: كيف استطاعت هذه القلة أن تختطف الحديث باسم الدين، وتنجح في إيصال صورة مغلوطة عن الإسلام، وتخترق العقول الغربية وتظهر الإسلام وكأنه دين همجي؟ وهل كانت ستتاح لها هذه الفرصة لولا غياب جهود تقديم الدين الحق للعالم بطريقة صحيحة، وبجهود متبصرة مستنيرة، تعرف كيف تستفيد من الفرص التي يتيحها المجتمع الغربي المفتوح، وخاصة الآن في عصر الانفتاح والعولمة وفائض التواصل المباشر على رغم المسافات وفي الزمن الحقيقي! قد لا يكون المطلوب، بالضرورة، تعليم الناس في الغرب الدين في تفاصيله، ولكن المطلوب، على الأقل، هو التواصل معهم، وتصحيح الصور النمطية والأفكار المغلوطة المنتشرة لديهم عن الإسلام والمسلمين.