جرت يوم الأربعاء الماضي الانتخابات البرلمانية الهولندية في سياق صعود سياسي متزايد للتيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة في أوروبا ناهيك عن فوز أحد رموز هذه التيارات بالرئاسة الأميركية، ولذلك لم تكن دلالة هذه الانتخابات خاصة بهولندا وحدها وإنما بقضايا بالغة الأهمية على رأسها مستقبل الاتحاد الأوروبي وحرية التجارة العالمية، حيث إن هذه التيارات ارتبطت بكراهية عملية التكامل الأوروبية نتيجة نزعة وطنية متشددة رأت فيها إضراراً بالمصالح الوطنية نتيجة إزالة القيود على حركة الأفراد والسلع عبر الاتحاد الأوروبي وعلى التجارة العالمية بصفة عامة. ولم يكن العرب والمسلمون بعيدين عن ظاهرة الشعبوية وصعود اليمين المتطرف، بل كانوا في القلب منها بحكم الكراهية الظاهرة للمهاجرين واللاجئين الذين تزايدت أعدادهم مع تفجر الصراعات الداخلية في عدد من البلدان العربية. وزاد من الأمر تفاقم الإرهاب الذي نُسب إلى الإسلام زوراً في المنطقة العربية على نحو غير مسبوق وامتداده إلى عدد من الدول الأوروبية ونجاحه في توجيه عدة ضربات لها هددت الأمن الأوروبي. ولذلك كله ترقبت الدوائر السياسية الأوروبية والأميركية وكذلك العربية نتائج الانتخابات الهولندية باهتمام بالغ. وفي قراءة هذه النتائج ذهب البعض إلى أنها مثلت ضربة لليمين المتطرف وكانت مصدراً لراحة بال أوروبية، وهو تحليل قد يكون صحيحاً ولكنه بالتأكيد غير دقيق. صحيح أن حزب الشعب والديموقراطية الذي يقود رئيسه الائتلاف الحاكم قد فاز بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان (33) ولكن حزب الحرية اليميني المتطرف انفرد أيضاً بالمرتبة الثانية بعشرين مقعداً، بل إن حزب الشعب والديموقراطية قد فقَد في هذه الانتخابات ثمانية مقاعد مقارنة بالانتخابات السابقة بينما تمكن حزب الحرية من إضافة خمسة مقاعد إلى ما كان بحوزته في تلك الانتخابات، ولذلك يمكن النظر إلى نتائج الانتخابات من زاوية أخرى هي أن صعود حزب الحرية مستمر كاتجاه بينما يتراجع الحزب الأول بحيث يصبح من قبيل التسرع الحديث عن ضربات موجعة لليمين. ولنتذكر أن الحليف الرئيسي لحزب الشعب والديموقراطية الحاكم، وهو حزب العمل، قد فقد ثمانية وعشرين مقعداً فتقلص نصيبه من مقاعد البرلمان المئة والخمسين من ثمانية وثلاثين مقعداً إلى تسعة فقط. وربما كان ما دفع البعض إلى الحديث عن ضربة موجعة لليمين هو أن استطلاعات الرأي كانت كثيراً ما تضع حزب الحرية في الصدارة، ولذلك فإن الخلاصة الأكيدة الوحيدة للانتخابات الهولندية هي أنها ضمنت استبعاد حزب الحرية من الائتلاف الحاكم القادم. غير أن الأهم من النتائج «الكمية» للانتخابات نتائجها «الكيفية»، إذا جاز التعبير، ذلك أن إنجاز حزب الحرية لا يقاس بعدد المقاعد التي حصل عليها فحسب وإنما بانتشار أفكاره شعبياً بحيث يصبح من الضروري لأي حزب يختلف معه في التوجهات أن يتحسب لهذا الانتشار وإلا خاطر بفقدان جزء من شعبيته. ولعلنا قد لاحظنا النبرة المتشددة لرئيس الوزراء الهولندي إبان الحملة الانتخابية في الرسالة التي نشرها في الصحف اليومية الهولندية، والتي تضمنت لهجة أشد صرامة تجاه المهاجرين الذين لا يندمجون في المجتمع منتقداً ممارساتهم الدالة على عدم اندماجهم، ومنتهياً بتحذيرهم «كونوا طبيعيين أو ارحلوا»! وهو ما يعكس بوضوح عدم قدرته على رغم ليبراليته على تجاهل الخطاب اليميني الشعبوي. فالعبرة في تأثير اليمين المتطرف ليست بعدد الأصوات التي يحصل عليها في الانتخابات فحسب، وإنما بقدرته على تشكيل المزاج السياسي العام. وليس عندي شك في أن الطريقة التي تصرف بها رئيس الوزراء الهولندي تجاه رغبة تركيا في إيفاد عدد من وزرائها إلى بعض البلدان الأوروبية لدعوة الأتراك المقيمين فيها إلى التصويت بـ«نعم» على الاستفتاء القادم في تركيا لا يمكن أن تنفصل عن الخشية من أن تستغل الدعاية اليمينية المتطرفة في الانتخابات هذا التحرك التركي غير المألوف ضد الائتلاف الحاكم، على أساس أنه بسماحه بهذا التحرك يقدم تنازلات أمام ما يسمونه بـ«الخطر الإسلامي»! وهذا ما لم يفهمه أردوغان، للأسف، فحدث ما حدث وأضاف باتهامه ألمانيا وهولندا وغيرهما بالفاشية والنازية ما صب الزيت على نيران الكراهية للإسلام التي أشعلها اليمين الشعبوي المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة، والتي يتعين علينا أن نحاول جاهدين إطفاءها بكل السبل، وهذه قصة أخرى.