يبدو أن إدارة ترامب قد توصلت إلى النتيجة ذاتها التي توصل إليها الرؤساء الأميركيون وقادة القيادة المركزية كافة منذ حرب الخليج الأولى في عام 1991، وهي أن حلّ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني ضروري لتعزيز المصالح الاستراتيجية الأميركية والأمن الإقليمي في الشرق الأوسط. وإذا ما نظرنا إلى الأمر بهذه الطريقة، فإن السعي من أجل تحقيق العدالة للفلسطينيين لا يكون غاية في حد ذاته، وإنما ثمن ينبغي أن تدفعه الولايات المتحدة، لكي يتسنى لها تعزيز وضع حلفائها الإقليميين في مواجهة التهديدات الماثلة أمام الاستقرار، سواء أكانت من عراق صدام، أو النظام في إيران، أو الكيانات الإرهابية غير الحكومية. وهذا التقدير الجديد للدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه السلام الفلسطيني - الإسرائيلي تسبب على ما يبدو في «تراجع» ترامب عن بعض مواقفه الاستفزازية أثناء الحملة الانتخابية بشأن هذه القضية. فقد توقف ترامب عن نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وأعرب عن تحفظاته بشأن برنامج التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، وعلى الرغم من رفضه الضغط علانية على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن ضرورة «حل الدولتين»، إلا أن أعضاء بارزين في إدارته أكدوا أن الإدارة الجددة ملتزمة بذلك الهدف. وجلّ هذه «الدلالات»، إلى جانب زيارة المبعوث الخاص «جاسون جرينبلت» إلى الأراضي الفلسطينية، أثارت توقعات بأن إدارة ترامب ربما تكون جادة بشأن التوصل إلى «اتفاق كبير»، يشمل السلام الفلسطيني -الإسرائيلي وترتيبات سلام إقليمية بين إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة في العالم العربي. وغذت تلك التوقعات تقارير تفيد بأن زيارة «جرينبلت» أثارت قلق نتنياهو، وطمأنت الرئيس الفلسطيني محمود عباس. غير أنني لا أستطيع تبني تلك التقديرات المتفائلة، لأسباب متعددة، أبرزها أنني متشائم بشأن آفاق ذلك الأمر برمته. ففي المقام الأول، لا توجد لدى القيادة الإسرائيلية رغبة في أي حل منطقي يلبي الحد الأدنى من المتطلبات الفلسطينية. وعندما كان في واشنطن، أوضح نتنياهو، الذي كثيراً ما يصرح بأنه يريد «مفاوضات من دون شروط مسبقة»، بأن ذلك المطلب لا ينطبق سوى على الفلسطينيين؛ لأنه أتبع ذلك ببيان طرح فيه شروطه غير التفاوضية التي تشمل: اعترافاً فلسطينياً بإسرائيل «دولة يهودية»، والتحكم الأمني الإسرائيلي بشكل كامل على الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن. وهذه الشروط المسبقة تعني مطالبة الفلسطينيين بقبول مواطنة من الدرجة الثانية، مع تركهم الضفة الغربية تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي الدائم. وعلاوة على ذلك، تتجدد مشكلة المستوطنات؛ لاسيما أن التقارير تؤكد أن نتنياهو يسعى إلى التوصل إلى اتفاق مع إدارة ترامب أفضل من ذلك الذي حصل عليه آرييل شارون من الرئيس الأسبق جورج بوش الابن. ويرغب الإسرائيليون في أن تسمح لهم الولايات المتحدة بمواصلة التوسع الاستيطاني خارج ما يصفونه بـ«التكتلات الاستيطانية»، التي تضم معظم المستوطنين في الضفة الغربية. وبالطبع، لن يقبل نتنياهو أي قيود على ما يصفه الإسرائيليون بصورة أحادية بـ«القدس الشرقية»، ولكنها في الحقيقة تضم مساحة شاسعة من الأراضي تشكل زهاء 10 في المئة من الضفة الغربية، و22 قرية فلسطينية. كما أنه لن يقبل أي قيود على «وادي الأردن»، الذي صادره الإسرائيليون، ويستغلون أراضيه التي تعتبر الأكثر خصوبة في المنطقة. وفي ضوء هذه الشروط المسبقة، لا يتبقى للفلسطينيين سوى سلسلة من المناطق المنفصلة، أبعد ما تكون عن أن تُشكّل كياناً قابلاً للحياة. ويؤمن نتنياهو باستعادة السيطرة على «إسرائيل الكبرى» المزعومة، وقد وسع المستوطنات لتحقيق تلك الغاية. غير أنه تعلم الخداع بتأييد ظاهري لـ«حل الدولتين» من أجل تخفيف الضغوط الدولية، بينما يواصل بناء مزيد من المستوطنات وتعزيز السيطرة على مزيد من الأراضي الفلسطينية. ومن الأساليب الأخرى التي استخدمها نتنياهو في المراوغة، أيضاً، ادعاؤه بأنه لا يستطيع تقديم كثير من التنازلات بشأن قضية المستوطنات خشية خسارة ائتلافه الحاكم. وهذا الزعم في أفضل الأحوال، محض كذب؛ لأنه قد بدا واضحاً في عدد من المناسبات أنه إذا أراد نتنياهو السلام حقيقة، يمكنه التخلي عن بعض من شركائه الحاليين لصالح تشكيل ائتلاف أكثر وسطية. وحتى بعيداً عن التوسع الاستيطاني، من الأسباب الأخرى للتشاؤم أيضاً وجود أكثر من 600 ألف مستوطن يعيشون في الوقت الراهن في الضفة الغربية و«القدس الشرقية». وقد أوجدت حالة المستوطنات والمستوطنين الذين يعيشون فيها وضعاً مأساوياً في الأراضي المحتلة. وأي قرار منطقي يضمن السيادة والحياة الفلسطينية سيقتضي إزالة عدد كبير من هؤلاء المحتلين. وفي ضوء المشهد الإسرائيلي الراهن، من المستحيل تخيل أي سيناريو تتخذ فيه الحكومة الإسرائيلية مثل هذه الخطوة.