كانت مفاجأتي كبيرة حين دعيت إلى ندوة في فاس من تنظيم جمعية نسائية أطلقت على نفسها تسمية «بيتنا حياتنا». فاجتمعت بمها البوري، وهي أستاذة في علم البيولوجيا، والأستاذة آمنة بن بشير، وهي رئيسة قسم الرياضيات في كلية العلوم من جامعة سيدي محمد بن عبد الله، بالإضافة إلى الأستاذة في الرياضيات خديجة العماري، وكذلك كوكبة من المحاميات من نموذج سميرة أوطالب وهو اسم من منطقة السوس في جنوب المغرب. ونشاط هذه الجمعية متعدد الجوانب وكانت جانبي من الحديث ضمن إطار «سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي» وعلاقته بالعنف الأسري. ومن النشاطات التي يقمن بها في هذه الجمعية الاتصال بالسجينات، وتثقيف الفتيات على مشاكل الأمراض الجنسية، وكذلك الاهتمام بالريف، وقد دعت العماري زوجتي المغربية للاشتراك في «الماراتون» النسائي، وهو تقليد جيد لتحرير المرأة من ترهل البدانة والحبس في المنزل فتنزل إلى ميدان الرياضة. لقد ذكرني نشاط نسوة فاس بمناسبة اليوم العالمي للمرأة بامرأة نادرة أنتجتها الثقافة الإيرانية هي «قرة عين»، ويصاب الإنسان بالحزن للتطور المعيب الذي قاد إيران الحالية إلى التجمد في أساطير تاريخ عن نزاعات وهمية حدثت قبل قرون. ويروي عالم الاجتماع العراقي علي الوردي عن هذه المرأة المذهلة (قرة العين) أنها عاشت في النصف الأول من القرن التاسع عشر وأصلها من قزوين، وقد جمعت بين أربع صفات: الجمال الفاتن والذكاء المفرط والشخصية القوية واللسان الفصيح، وهي صفات يندر أن ينال المرء واحدة منها، أحرى أن تجتمع فيه معاً. ويصفها أخوها على النحو التالي: «إننا جميعاً ما كنا نقدر أن نتكلم في حضرتها لأن علمها كان يرعبنا، وإذا تصادف وتكلمنا في مسألة فإنها كانت تتكلم بكل وضوح وإتقان على البداهة حتى نعلم أننا أخطأنا السبيل ونتركها ونحن متحيرون». وهذه المرأة النارية الساحرة أصبحت حديث أهل طهران في زمنها فاجتمع الرجال والنساء على حديثها الساحر ولم يكن يسمعها أحد إلا زلزل وارتج وبكى من التأثر. وكان مصيرها أن قتلت بوضعها: «في فوهة مدفع وأطلق عليها قنبلة مزقتها إرباً إرباً» ويقال إنها: «خنقت بمنديل من الحرير قدمته بنفسها إلى جلادها ثم أنزلت في بئر وهيل عليها التراب» وليس لها قبر! ووصفها «الكونت دي غوبينو» في كتابه «الأديان والفلسفات في آسيا الوسطى» بقوله: «كان الكثير من الذين عرفوها وسمعوها في أوقات مختلفة من حياتها يذكرون لي دائماً أنها فضلاً عما اشتهرت به من العلم والغزارة في الخطب، فإن إلقاءها كان من السهل الممتنع، وكان الناس أثناء تكلمها يشعرون باهتزاز وتأثير إلى أعماق قلوبهم مفعمين بالإعجاب وتنهمر دموعهم من الآماق». ويعلق على هذه الشخصية النادرة علي الوردي، مرة أخرى، فيقول: «إنها عبقرية جاءت في غير زمانها، أو هي سبقت زمانها بمئة سنة على أقل تقدير، فهي لو كانت قد نشأت في عصرنا هذا وفي مجتمع متقدم حضارياً لكان لها شأن آخر وربما كانت أعظم امرأة في القرن العشرين»! وبغض النظر عن توجهاتها الفكرية فهي كانت امرأة تجدد بدون توقف ولو امتد بها العمر لربما غيرت أكثر في آرائها، فأناس من هذا الطراز من العبقرية لا يقفون عند خرافة وشخص بل يحرقون في طريقهم كل الخرافات ويتجاوزون الأشخاص والمدارس ليقنصوا طرفاً من الحقيقة بعد حين ويشقوا الطريق إلى منهج جديد ومدرسة مستحدثة. كانت الأميرة «صوفي شارلتنبرغ» تحاور الفيلسوف الألماني «ليبنتز»، وكانت تقول لم يشرح لي الفيلسوف كل شيء وسيكون الموت هو الذي سيجيبني على آخر معضلات الفلسفة!