دخلت الثورة السورية يوم أمس، 16 مارس، عامها السابع، مخلفة على امتداد هذه السنوات العجاف عدداً قياسياً من الضحايا بين قتلى وجرحى ومفقودين، ودماراً هائلاً في البنية التحتية إلى حد خراب مدن وبلدات كاملة عن بكرة أبيها، كما أدت أيضاً إلى لجوء وتهجير نصف سكان سوريا، وسببت شروخاً وتمزقات قد لا تكون قابلة للإصلاح مستقبلاً في النسيج الاجتماعي والسكاني السوري، وبذلك تكون هذه الثورة هي الأشنع والأبشع تكلفة بشرية ومادية ضمن اضطرابات وصراعات ما سمي في الإعلام الغربي بـ«الربيع العربي». وعلى كثرة الكتب التي صدرت في أوروبا خلال السنوات الست الماضية عن الثورة أو الأزمة السورية، فقد غلبت عليها، عموماً، المقاربات الإعلامية الحدَثية، والقراءات الموضعية المتسرعة أحياناً، والطافحة بخليط من الصور النمطية، والضبابية في فهم ووصف كثير من مفردات الحدث السوري نفسه. ولعل السبب في ذلك عائد، بالأساس، لضغوط وسيولة وتسارع الأحداث نفسها، أو لأن بعض مؤلفي هذه الكتب «المسلوقة» مراسلون صحفيون ذهبوا إلى مسرح العمليات في أتون الحريق السوري فغرقوا في التفاصيل وعلقوا في دوامة الروايات والروايات المضادة التي اقترحتها عليهم المصادر، أو أملتها عليهم مشاهداتهم من زوايا نظر ضيقة، لم ترَ الحالة السورية في عموميتها وشموليتها. هذا فضلاً عن عدم تخصص كثير منهم أيضاً في الشأن السوري، أو العربي، بصفة عامة، ما جعل قدرتهم على إعادة ربط عناصر الصورة المتناثرة وتعقيدات المشهد المتنافرة مهمة صعبة. ولعل من الكتب القليلة التي شذت عن هذا المنزع النمطي الكتاب الذي أصدره الخبير الفرنسي في الشؤون السورية، والعربية، فردريك بيشون في بداية شهر مارس الجاري تحت عنوان: «سوريا، ثورة من أجل لا شيء»، حيث قدم فيه قراءة متماسكة، وبأفق مفتوح، لخلفيات وواقع وآفاق الحالة السورية النازفة التي تحولت تسمياتها في التداول الإعلامي بسرعة من ثورة إلى أزمة إلى حرب أهلية، وصولاً إلى ما يشبه حالة حرب الكل ضد الكل، بالنظر إلى اتساع الأطراف المنخرطة فيها الآن، داخلياً وخارجياً، إقليمياً ودولياً، بشكل يندُّ على كل توصيف أو تصنيف. ولعل مما يزيد قيمة هذا الكتاب أيضاً أن مؤلفه قد زار اثنتي عشرة مرة، مدناً سورية مختلفة خلال السنوات الست الماضية من عمر الأزمة، كما تمكن ايضاً من رؤية الحالة السورية منذ بداية فورانها وغليانها، وعايش تحولاها اللاحقة عن قرب، من خلال المعايشة والمشاهدة بالعين المجردة. ومنذ البداية يقول الكاتب إن الأطراف التي سعت جاهدة للدفع بسوريا في أتون حال عارم من عدم الاستقرار والنزاع المستدام قد أدركت غاياتها، ونجحت مساعيها، في النهاية بالنظر إلى حجم الخراب الذي حل بالدولة السورية، وأيضاً لدخول الأزمة بداية عامها السابع الآن دون أن يظهر في نهاية النفق أدنى ضوء شحيح، أو بارقة أمل على إمكانية اجتراح حل سياسي أو دبلوماسي قريب. بل إن تلك الدولة، التي ظلت بمنأى عن تهديد التطرف لزمن مديد، ارمت فيه الآن من الباب العريض، وباتت، كجارها الشرقي العراق، ملاذاً لكل ما قد يخطر على الذهن من أنواع الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية، ويكفي دلالة، في هذا المقام، اتخاذ تنظيم «داعش» الإرهابي مدينة الرقة السورية عاصمة لـ«دولته» المزعومة و«خلافته» الموهومة! وحتى إن كان نظام الأسد الذي رُفع مطلب إسقاطه منذ البداية كهدف للثورة السورية، ما زال مستعصياً على الإسقاط، بفعل قوة تدخلات حلفائه الدوليين والإقليميين، فإن حجم فائض الخسارة التي تكبدتها سوريا والسوريون، لا يبدو قابلاً أبداً للتعويض في المدى القريب، وربما حتى البعيد. ولعل حجم الضرر البشري والمعنوي الذي كلفته هذه المحنة الإنسانية ينطق بكل شيء اليوم مع بداية العام السابع: أربعمائة ألف من القتلى بحسب المؤلف، وعدد هائل من الجرحى والمفقودين والمعتقلين، وقرابة تسعة ملايين مهجّر ما بين نازح في الداخل أو لاجئ مشرد في الخارج. وفوق ذلك كله تدمير منهجي كامل للبنيات التحتية والدورة الاقتصادية، وانهيار معدلات مستوى المعيشة والخدمات وتراجع الأمل في الحياة بشكل غير مسبوق. ويقول «بيشون» إن استمرار نزيف الحرب الأهلية والإيديولوجية السورية الراهنة يقدم أبلغ دليل على إخفاق الدبلوماسية الدولية الموروثة عن مفاهيم ما سمي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن بتيار «المحافظين الجدد»، الذين كرسوا مبدأ التدخل الدولي في شؤون دول أخرى بعيدة بدعوى فرض أو دعم الديمقراطية، وهو ما أدى لانفتاح المشهد الدولي على أفق جديد من التدخلات والإخلالات بسيادة الدول واستقرارها وقواعد العيش المشترك السابقة بين شعوبها. وعلى كثرة ما عقد حتى الآن من مؤتمرات دولية وإقليمية للبحث عن مخرج من أي نوع لوقف النزيف السوري، فقد فشلت جميعاً وظل الصراع محتدماً بل يزداد دموية، لتثبت بذلك الدبلوماسية الدولية عجزها المطبق عن إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكيان السوري والشعب السوري. كما لا يغفل الكاتب أيضاً انتقاد الدور الذي لعبته دبلوماسية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، التي تكشفت أخيراً عما لم يكن متوقعاً بقوة في ولاية أوباما الأولى، وهو الجنوح خلال سنواته الأخيرة نحو نوع من الانكفاء الأميركي، والانسحاب من كثير من الالتزامات الاستراتيجية والجيوبوليتيكية الدولية، وقد دفع الشرق الأوسط، وخاصة الحالة السورية، ثمن ذلك غالياً، حيث أحجمت إدارة أوباما عن التدخل لوضع حد للأزمة في وقت كان في مقدورها فيه لعب دور محوري، بل مصيري لوقف النزيف. ويرى الكاتب أيضاً أن المحنة السورية مثلما كشفت عن قصور مفهوم الدبلوماسية عند «المحافظين الجدد» وغلاة دعاة النزعة الأطلسية، أظهرت أيضاً قصوراً فاضحاً في وعي الغرب، بشكل عام، بحجم التحول الحاصل في المشهد الدولي اليوم، مع تعاظم دور وحضور القوى البازغة، وخاصة مع العودة الروسية القوية للعب دور مؤثر في المشهد الشرق أوسطي، من خلال البوابة السورية. فمنذ تدخل روسيا بشكل مباشر في سنة 2015 أخذ الصراع السوري منحى جديداً، كانت كفة نظام الأسد هي الراجحة والرابحة فيه على الأرض، وخاصة أن ما فكر فيه البعض في الغرب من إمكانية إيجاد منطقة سُنية في شرق البلاد، بات غير ممكن الآن مع استعادة قوات النظام وحلفائه بعض أهم تلك المناطق السنية. وزاد الانخراط الروسي أكثر بتوسيع حجم الوجود العسكري في قاعدتي طرطوس وحميميم، والدور السياسي، وأيضاً بعد أن تمكنت موسكو وبعض حلفائها من انتزاع بعض المساعي الأكثر تأثيراً في جهود البحث عن تسوية، وقد لا يكون خلواً من المعنى في هذا المقام الانتقال بالمفاوضات السورية إلى أستانا في كازاخستان، بعدما ظلت مؤتمرات سلام الشرق الأوسط طيلة فترة نصف القرن الماضية تنعقد فقط في العواصم الأوروبية وفي الولايات المتحدة، وهو ما يؤشر إلى تحول في مستوى الانخراط والتأثير لصالح الشرق على حساب الغرب. وفي المجمل يرى الكاتب أن جميع اللاعبين على المسرح السوري خاسرون في النهاية، سواء في ذلك النظام السوري الذي انفصل عن شعبه ودخل في حرب مفتوحة ضده وحول بلاده إلى دولة فاشلة منزوعة السيادة ومفتوحة لكافة التدخلات الخارجية، أو الشعب السوري نفسه الذي كابد كل هذه الأهوال والمعاناة المريرة، أو اللاعبون الإقليميون الآخرون، وحتى الدوليون، وخاصة الغربيين منهم، وفي مقدمتهم أوروبا -وفرنسا تحديداً- الذين أخفقوا في لعب دور من أي نوع لوقف النزيف السوري. وبهذه الكيفية، وبمراكمة كل هذا الفائض من الفشل السياسي والدبلوماسي الداخل والخارجي يغدو مفهوماً أن بلوغ المحنة السورية نهايتها قد لا يكون قريباً، كما أن أفق الصراع الإقليمي والدولي ربما سيستمر لمزمن مقبل مديد، والخشية أن يبقى حلم السوريين باستعادة السلام والأمان في بلادهم حلماً مؤجلاً بهذه الكيفية إلى أمد آخر غير معروف. حسن ولد المختار الكتاب: سوريا، حرب من أجل لا شيء المؤلف: فريدريك بيشون الناشر: سيرف تاريخ النشر: 2017