كان نقل القتال إلى التنظيمات الإرهابية عبر العالم أحدَ الوعود الرئيسية التي أطلقها دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية، حيث كان يَعتبر أن تركيز سلفه أوباما على «التصدي للتطرف العنيف» كان ليبرالياً واختزالياً ويحجب الطبيعة الحقيقية للتهديد. وقال ترامب في أحد خطابات حملته الانتخابية في سبتمبر الماضي: «إن أي شخص لا يستطيع أن يذكر عدونا بالاسم لا يصلح لقيادة هذا البلد». ومباشرة عقب تنصيبها تقريباً، ألمحت إدارته إلى أنها تعتزم «إعادة تنظيم وإعادة تسمية» المقاربة المعتمدة حالياً لـ«مواجهة التطرف الإسلامي المتشدد». وفي غضون ذلك، اقترح الرئيس الأميركي الجديد زيادة مهمة في الإنفاق العسكري، تتم تغطية جزء منها عبر تقليص كبير لميزانيتي وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، إذ تفترض استراتيجية ترامب الجديدة على ما يبدو أن دافع أعداء أميركا هو الإسلام، وأن أفضل طريقة لمحاربتهم هي باستعمال القوة العسكرية. والحال أن كلا الافتراضين يجانبان الصواب على نحو خطير. ولنأخذ على سبيل المثال نيجيريا، حيث يخوض تنظيم «بوكو حرام» حاليا ثالثَ أكثر حركة تمرد دموية في العالم. صحيح أن هذه الجماعة أعلنت ولاءها لتنظيم «داعش»، غير أن معطيات الدراسات الاستقصائية التي تم جمعها في الولايات النيجيرية الثلاث الأكثر تأثراً بـ«بوكو حرام» (بورنو، أداماوا، يوبي) تشير إلى أن الإسلام ليس عاملاً رئيسياً في تحفيز المجندين. بل إن البطالة، وليس التدين، هي العامل الرئيس في استقطاب التنظيم الإرهابي للدعم. وعلاوة على ذلك، فإن وجود برامج واضحة ومرئية تابعة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية يتزامن مع مستويات متدنية في الدعم لـ«بوكو حرام». هذان المعطيان يشيران معاً إلى أن القوة الناعمة الدبلوماسية – وليس القوة الصلبة التي تم التشديد عليها خلال الأيام الأولى من رئاسة ترامب – هي المفتاح لإضعاف التنظيمات الإرهابية. بعبارة أخرى، إن تقليص إنفاق وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية من أجل تمويل الجهود العسكرية لهزم «داعش» وغيره من التنظيمات المتطرفة يمكن أن يكون له تأثير عكسي تماماً. غالبية المسلمين ضد التطرف ففي شمال نيجيريا، حيث قُتل أكثر من 20 ألف شخص، ونزح ما يقدر بـ2.6 مليون شخص خلال ثماني سنوات من النزاع، لا يبدو أن الإسلام هو المشكلة. ذلك أنه في الولايات الثلاث التي أنجزتُ فيها وزملائي في وكالة «أو آر بي إنترناشيونال» لاستطلاعات الرأي دراستنا، تفوق نسبةُ المسلمين السُنة 70 في المئة من السكان. ومع ذلك، فإن أكثر من 83 في المئة من المسلمين هناك قالوا إنهم لا يؤيدون التنظيمات المتطرفة. كما أشار 96 في المئة من السُنة الذين شملهم استطلاع الرأي (و97 في المئة من كل المسلمين) إلى أن لديهم رأياً «سلبياً» أو «سلبياً جداً» عن المتطرفين العنيفين. (هذه المعطيات التي لم يسبق نشرها تستند إلى دراسة شملت 3 آلاف و910 إشخاص بين ديسمبر 2016 ويناير 2017 في مناطق في شمال شرق نيجيريا تتعرض بشكل دوري لهجمات «بوكو حرام»). بيد أنه إذا كان الاشتراك في الهوية الدينية لا يُخبرنا بأشياء كثيرة حول احتمال أو ميل أحد الأشخاص للتعاطف مع المتطرفين، فإن الحالة الوظيفية تُخبرنا بالكثير. ذلك أن 16 في المئة من المستجوَبين العاطلين عن العمل قالوا إنهم «يؤيدون» أو «يؤيدون كثيراً» المتطرفين، مقارنة مع 7 في المئة فقط من المستجوَبين الذين لديهم عمل. وإضافة إلى ذلك، فإن الأشخاص العاطلين عن العمل ينجذبون إلى المتطرفين بغض النظر عن مستواهم التعليمي: ذلك أن 43 في المئة ممن لديهم مستوى تعليمي ابتدائي على الأقل قالوا إنهم يؤيدون «كثيراً» أو «بعض الشيء» المجموعات المتطرفة، في حين قال 40 في المئة ممن لديهم مستوى تعليمي دون الابتدائي الشيءَ نفسه. إرهاب أم مشكلة بطالة؟! البيانات المستقاة من يوبي وأداماوا وبورنو، وجميعها مناطق بشمال شرق نيجيريا، تُظهر أن الدافع الرئيسي للدعم الذي تحظى به «بوكو حرام» هناك، هو البحث عن دخل وعمل. فجواباً على سؤال حول سبب انضمام بعض الأشخاص إلى هذا التنظيم، أشار 58 في المئة من المستجوَبين إلى «المال» أو «العمل» باعتباره السبب الرئيسي. وهذا ليس مفاجئاً في الواقع، بالنظر إلى أن معدلات البطالة تتراوح ما بين 42 و74 في المئة في هذه الولايات الثلاث. وبالفعل، فإن بواعث القلق المالية تتغلب على بواعث القلق المرتبطة بالإرهاب في المنطقة، على الرغم من أن «بوكو حرام» تعيث في معظم تلك المناطق فساداً. فعندما طُلب منهم تحديد المشاكل الثلاثة الأخطر التي تقض مضجعهم، اختار المستجوَبون: البطالة، وارتفاع الأسعار، والفساد. أما الإرهاب، فقد جاء في المرتبة الرابعة باعتباره أخطر مشكلة في نظرهم. إن مشكلتي البطالة والفقر لا تُحلان بسهولة عبر محاربة مفهومٍ فضفاض لا شكل له مثل «التطرف الإسلامي المتشدد»، وإنما تعالَجان من خلال مشاريع التنمية، والتدريب المهني، والبرامج التعليمية، وبرامح تسوية النزاعات، على غرار تلك التي أنجزتها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ووكالات أخرى تعنى بالتنمية في شمال شرق نيجيريا خلال السنوات الأخيرة. ولئن كانت معطياتنا لا تتحدث عن أي هذه المبادرات أكثر فعالية (يذكر هنا أن دراسة مقارنة ذات صلة، تنجزها وكالة «أو آر بي إنترناشيونال» الخريف المقبل، من المرتقب أن تسلط الضوء على فعالية البرنامج)، فإنها تشير بالمقابل إلى أن برامج «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» تتزامن مع مستويات منخفضة من الدعم لـ«بوكو حرام». إيجابية وكالة «التنمية الدولية» وعلى سبيل المثال، فإن سكان بورنو كانوا الأكثر ميلاً إلى القول إن برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية «واضحة ومرئية جداً» أو «بعض الشيء» (36 في المئة قالوا ذلك)، والأقل ميلاً إلى دعم المجموعات المتطرفة (7 في المئة عبّروا عن «بعض» أو «الكثير» من الدعم للمتطرفين). وبالمقابل، اعتُبرت البرامج التي تمولها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية «مرئية جداً» أو «بعض الشيء» من قبل 21 في المئة فقط من الناس في أداماوا، التي عبّر 20 في المئة من السكان فيها عن «بعض» أو «الكثير» من الدعم للمجموعات المتطرفة. وهذه ليست مصادفة في الواقع. ذلك أن برامج «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» تزيد على ما يبدو من ثقة الناس في حكومتهم، الأمر الذي يبدو أنه يقلّص بدوره الدعم للمجموعات المتطرفة. كما أن 78 في المئة من الأشخاص الذين قالوا إن البرامج المموَّلة من «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية «مرئية» أو«مرئية جداً» أشاروا إلى أنهم«واثقون» أو«واثقون جداً» في الحكومة النيجيرية. ومن بين من قالوا إنهم واثقون في الحكومة، أشار 87 في المئة إلى أنهم لا يؤيدون المجموعات الإرهابية. والأمر نفسه ينطبق على الأشخاص الذين منحوا الحكومة تقييماً «جيداً» أو«جيداً جداً»: ذلك أن 86 في المئة لا يؤيدون التنظيمات الإرهابية. (وعلى سبيل المقارنة، فإن 18 في المئة من الأشخاص الذين منحوا الحكومة تقييماً«سيئاً جداً» يؤيدون «جداً»، أو «بعض الشيء» المجموعات الإرهابية). وفضلاً عن ذلك، فإن وضوح البرامج المموَّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وقدرة الناس على رؤيتها – برامج من قبيل التدريب المهني، وتجديد المدارس العامة وإصلاح مراكز الشرطة – مرتبطان ارتباطاً مباشراً بالآراء الإيجابية عن الولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال، فإن سكان بورنو، حيث يمكن رؤية برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية على وجه أوضح من أي مكان آخر في نيجيريا، لديهم أكثر آراء إيجابية عن الولايات المتحدة: ذلك أن أكثر من 92 في المئة من المستجوَبين هناك ينظرون إليها بشكل إيجابي. كل هذا يمثل دليلاً قوياً ومقنعاً على أن القوة الناعمة الأميركية تحقق التأثير المتوخى منها. فهي تحسِّن حياة الناس، وتزيد من قدرات الحكومة، وتساهم في تكوين الناس لرأي إيجابي عن أميركا. ولعل الأهم من ذلك أنها تقلِّص الدعم للتطرف العنيف. المطاردة وحدها لا تكفي والحق أن إدارة ترامب محقة في استهداف المنظمات المتطرفة المتشددة عبر العالم، لأن هذه المنظمات مسؤولة عن مستويات مرعبة من الموت والدمار، ولكن الطريقة التي تواجَه بها هذه التنظيمات مهمة جداً. فالولايات المتحدة لا يمكنها أن تطارد بعبعاً إسلامياً متشدداً بشكل أعمى، وهذه حقيقة يبدو أن مستشار ترامب للأمن القومي «إتش. آر. ماكماستر» يعترف بها في المجالس الخاصة. كما أن حملات القصف الأميركية على غرار تلك التي تجري في اليمن حالياً – أو بيع الأسلحة لشركاء عسكريين مثل نيجيريا – لا يمكنها لوحدها أن تؤدي إلى دحر المجموعات المتطرفة أو أيديولوجياتها. وبالتالي، فعلى الولايات المتحدة أن تعالج المشاكل التي تدفع الناس إلى أحضان هذه المجموعات أصلًا. والقيام بذلك يتطلب تمويلاً أكبر – وليس أقل – للقوة الناعمة الصادرة عن وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية والمنظمات غير الحكومية التي تشتغل من أجل فهم الأفكار المتطرفة والتصدي لها. وخلاصة القول إنك إذا قمت بإيجاد فرصة عمل لشخصٍ متطرف عنيف اليوم، فالأرجح أنك لن تكون مضطراً لقتله لاحقاً – وهذا صحيح بغض النظر عن دينه. عن دورية «فورين بوليسي» زوري لينتسكي: زميل «مشروع ترومان للأمن القومي»، و«مركز السياسة العالمية» بكلية فرانك باتن للقيادة والسياسة العامة التابعة لجامعة فرجينيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»