أمام مدخل حديقة ألعاب في ألمانيا استوقفني رجل وأخذ يرطن بلغة لا أعرفها، لكني خمّنت أنها الإسبانية، فاعتذرت له بأنني لا أدري ما يقول، فأطلق عدداً من العبارات السريعة التقطتُ منها كلمة «فنزويلا»، فهتفتُ متسائلاً: «كراكاس‏؟»?، ?فضحك ?وهزّ ?رأسه ?بامتنان، ?ربما ?لأنه ?لم ?يتوقع ?أن ?يسمع ?هذه ?الكلمة ?في ?هذا ?المكان ?البعيد، ?وانصرف ?بعائلته ?مبتعداً. بقينا في الحديقة لساعات، تلاقينا خلالها في أكثر من مكان، وفي كل مرة نتبادل التحية بـ«كراكاس»، حتى صارت الكلمة كأنها شيفرة بيننا، نتحدث عبرها في وسط آلاف الألمان الذين لا يعرفون ما نقول، كأننا أفراد عائلة واحدة في بلد لا نعرف لغة أهله. لا أريد أن أعطي الموقف أكبر من حجمه، لكن كان يكفي أن أعرف كلمةً واحدة عن بلد ذلك الرجل، ولم أكن حينئذ أعرف عن فنزويلا سوى أن عاصمتها كراكاس، وأن رئيسها آنذاك تشافيز، لتنشأ بيننا علاقة خاصة عابرة. تراءى لي هذا الموقف أثناء خطاب صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في الجلسة الختامية لـ«مجلس محمد بن زايد لأجيال المستقبل»، حين أكّد سموه أهمية التعرّف إلى الثقافات، ليتمكّن الإماراتيون من التعاطي مع الصين وتشيلي، في إشارة إلى العالم من أقصاه إلى أقصاه، وذلك لفتح الآفاق أمام الأجيال مع مختلف أسواق العالم. كان التعرّف إلى الثقافات الأخرى ترفاً بالأمس، ولم يعد كذلك اليوم، فهذه مرحلةٌ الناجحُ فيها مَن يملك المعلومة، ويعرف كيف يستثمرها، والناجحُ فيها مَن يذهب إلى مَن يملك المعلومة، ويعرف كيف يأخذها، وهذا لا يتأتى بالتقوقع على أنفسنا. والتعرّف إلى الثقافات من دون اتساع الصدر والأفق لا ينتج إلا أوهام التفوّق، والتي بدورها تؤدي إلى الانغلاق، فلا يكفي أن أعرف أن البرازيليين يحتفلون في هذا اليوم بهذه المناسبة، بل لا بد أن أحترم احتفالهم مهما بدا غريباً في ثقافتي، ولا يكفي أن أعرف أن اليابانيين يعتبرون هذا الأمر موافقاً لقواعد الآداب، بل لا بد أن أتفهّم قواعدهم حتى لو كانت على خلاف ما تربيت عليه. هذا المعنى عبّر عنه الشيخ محمد بن زايد حين أكّد أن ثمة صواباً في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، واعتبر أن القبول بأن الآخرين أيضاً على صواب، هو التحدّي الذي يواجهه الإنسان العربي والمسلم، لئلا يقع في وهم امتلاك الحقيقة، وهو الوهم الذي يغلق أمامه الأبواب. وفي مذكراتها، تقول هيلاري كلينتون، إن العلاقات بين الدول تقوم على المصالح والقيم المشتركة، وعلى الشخصيات أيضاً. وأن للعنصر الإنساني أهمية في العلاقات الدولية أكبر مما يعتقده الكثيرون، سواء أكان تأثيره سيئاً أم إيجابياً. وتضرب مثلاً لذلك في الصداقة المتينة التي ربطت بين ريجان وتاتشر، والتي ساهمت في الفوز في الحرب الباردة، وفي العداوة بين خروشوف وماو، والتي ساهمت في خسارتها. وإذا كان الأمر هكذا في العلاقات بين الدول، فمن باب أولى أنه هكذا في العلاقات بين البشر، وعلى المستويات كافة، وهكذا قال محمد بن زايد حين أكّد أن من يأتون إلى الإمارات لا ينظرون إلى المباني وإنما إلى معدن الإماراتي.