يواصل العالم حشد جهوده لتحقيق هدف طموح يتمثل في استئصال مرض شلل الأطفال نهائياً من على وجه الأرض، من خلال «المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال» التي تعد أحد أكبر برامج الصحة العامة في العالم. ولا شك بأن فرصة تخليص العالم من مرض مستعصٍ لا تتكرر كثيراً، وقد بات من المؤمل بلوغ هذا الهدف في غضون السنوات القليلة المقبلة، إن توفرت المقومات اللازمة لنجاح المهمة المذكورة وإتمامها بالشكل المطلوب. وكدليل على نجاح المبادرة وسيرها في الطريق الصحيح، تم في العام 2016 تسجيل أكبر انخفاض في عدد الأطفال المصابين بشلل الأطفال مقارنةً بأي عام آخر، لتواصل هذه المبادرة التي تُعد شراكةً بين القطاعين العام والخاص تقودها حكومات وطنية وخمسة شركاء رئيسيين، تحقيق تقدم مذهل نحو سعيها للقضاء على المرض بشكل كامل. ويواصل العالم سعيه لملاحقة فيروس شلل الأطفال الذي لم يعد يتوطن سوى في مناطق قليلة من باكستان وأفغانستان ونيجيريا، والتي تتسم بصعوبة الوصول إليها عملياً وممارسة أنشطة التحصين المطلوبة في إطار المبادرة، إلا أن هناك عدداً من التوجهات المبتكرة التي يمكن أن تسهم في القضاء تماماً على المرض، إلى جانب حماية الأماكن الخالية منه، وذلك عن طريق تجاوز الحواجز الأخيرة التي تحول دون وصول لقاحات شلل الأطفال إلى جميع الأطفال، وتعزيز عملية رصد حالات الإصابة بالشلل الرخوي الحاد الذي يعد بدوره أحد المؤشرات الرئيسية على وجود شلل الأطفال. ولم يسبق أن نجح العالم في استئصال مرض بشري معدٍ إلا مرة واحدة، وذلك حينما تم القضاء على الجدري عام 1980. ومع اكتشاف لقاح شلل الأطفال عام 1950، شهدت حالات الإصابة بالمرض تراجعاً كبيراً وفورياً. وانطلاقاً من هذا النجاح، أخذ العالم على عاتقه السعي وراء هدف طموح، ولكنه لا يزال قابلًا للتحقق، وهو القضاء على هذا المرض المُقعِد بشكل جذري. وعملاً على تحقيق هذه الرؤية العالمية، تأسست المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال بجهود مشتركة قادتها كل من منظمة الصحة العالمية ومنظمة الروتاري الدولية والمراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف). وقد انضمت «مؤسسة بيل ومليندا جيتس» إلى هذه الشراكة في وقت لاحق. ومنذ لحظة تأسيس المبادرة، وبفضل الجهود المبذولة في إطارها، تراجع عدد الأطفال المصابين بفيروس شلل الأطفال من 350 ألفاً إلى 32 حالة فقط في العام 2016، بما يمثّل تراجعاً بنسبة 99.9%. لكن لا شيء يمكن أن يقف في طريق نجاحنا، فهدفنا هو تحقيق نسبة 100%. ولن تقتصر فوائد الاستئصال النهائي عالمياً لهذا المرض المقعد على تجنيب الأطفال خطر المعاناة منه، بل تشمل تحقيق منفعة اقتصادية كبيرة من خلال توفير موارد مالية بقيمة تقدر بنحو 50 مليار دولار والتي يمكن توجيهها في معالجة الاحتياجات الصحية العامة الأخرى. سيكون القضاء على شلل الأطفال، عند تحقيقه، إنجازاً بشرياً يمثّل ثمرة للعزيمة وتضافر الجهود والتعاون الدولي، وكلما أوشكنا على استئصال هذا المرض نهائياً أصبحت المهمة أصعب وزادت أهميتها. كما أن البرنامج لن يتوقف أبداً عن توظيف الوسائل المبتكرة وتعزيز الأنظمة المستخدمة، وصولاً إلى إبادة الفيروس نهائياً. وتظل حملات التحصين القوية وأنظمة المراقبة الحساسة وتحسين خدمات التحصين الروتينية الأعمدة الرئيسية لنجاح برنامج استئصال شلل الأطفال، لكن هناك عدداً من الحلول المبتكرة التي تلعب دوراً محورياً في إنجاز المهمة وتحقيق الهدف المنشود. -مراكز العمليات الطارئة: في المرحلة النهائية من مهمة القضاء على شلل الأطفال، سيتم التعامل مع كل حالة إصابة على أنها بداية تفشٍ للمرض وحالة طارئة، وبالتالي من المهم جداً أن يمتلك البرنامج الجاهزية للاستجابة بسرعة ومرونة. كما توفر مراكز العمليات الطارئة آلية تنسيق بين الحكومات والشركاء في البرنامج لتوحيد جهودهم وتنفيذ استراتيجية متناسقة ومتناغمة. وقد أثبت هذا النموذج فاعليته في الحيلولة دون انتشار شلل الأطفال، وتم تطويره بالفعل لمحاربة أمراض وبائية أخرى مثل الإيبولا. -الهواتف المتحركة: تواصل التطورات التقنية مساهمتها في تحسين جميع جوانب الرعاية الصحية والصحة العالمية. فعلى سبيل المثال، هناك تطبيق للهواتف الذكية باسم «Survey123» يُمكِّن العاملين في مجال القضاء على شلل الأطفال من إعداد تقارير بأنشطة الحملة عن بعد وفي وقتها الفعلي، وبذلك فإنها ستحل محل التقارير التقليدية المكتوبة باليد، كما أنها أكثر فاعلية ودقة. ومثل هذه التقنية ساهمت في القيام بإجراءات تصحيحية سريعة في هذا المجال، كما حسنت من أداء الحملة. -استخدام وسائل مبتكرة في تقديم اللقاحات: يمثل كل من لقاح فيروس شلل الأطفال المعطل ولقاح شلل الأطفال الفموي جزءاً لا يتجزأ من عملية القضاء على شلل الأطفال، إلا أن النقص في اللقاحات يبرز أهمية استخدام وسائل مبتكرة لضمان حصول الأطفال على المناعة التي يحتاجونها، على سبيل المثال يساعد استخدام طريقة «الجرعة الجزئية» الجديدة من لقاح فيروس شلل الأطفال المعطل في توزيع الكميات المحدودة على نطاق أكبر لتصل إلى عدد أكبر من الأطفال. فهذه الطريقة تقتضي استخدام خُمس الجرعة المعتادة مع كل طفل، وتتضمن إعطاء الجرعة عبر الجِلد عوضاً عن الحقن في العضل. وتجري حالياً جهود بحثية تهدف إلى الانتقال إلى مرحلة أكثر تطوراً في عملية إيصال اللقاحات. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام ملصقات ذات رؤوس مجهرية مدببة بإمكانها نقل لقاح فيروس شلل الأطفال المعطل إلى داخل الجسم بسهولة أكبر مقارنة بحقنه في العضل، كما يمكن تطبيق هذا الابتكار مع أنواع أخرى من اللقاحات في المستقبل. من المتوقع أن تحقق مهمة القضاء على شلل الأطفال نتائج رائعة، لكن الأهم من ذلك توفر التمويل الكافي لكي يستمر البرنامج في مضيه للوصول إلى هدفه المنشود. لقد حققنا تقدماً كبيراً بفضل التبرعات السخية من أصحاب الأيادي البيضاء، ومعظمهم من منطقة الخليج، وخاصة دولة الإمارات العربية المتحدة التي تعهدت بتقديم 120 مليون دولار أميركي للقضاء على شلل الأطفال، إلى جانب البنك الإسلامي للتنمية والمملكة العربية السعودية. ويحتاج البرنامج في الوقت الحالي لتمويل إضافي قدره 1.3مليار دولار حتى العام 2019. كريس ماهر: مدير برنامج استئصال شلل الأطفال بمنظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط