في أي مكان تردّ إيران على التضييق الأميركي عليها، في جنوب لبنان، في الجولان السوري، في عراق «ما بعد داعش»، في اليمن؟ صحيح أنها تلقت تحذيراً أميركياً وبادرت إلى تحدّيه بتجربة صاروخية إضافية، وأن عقوبات جديدة فرضت عليها وقابلتها باستهزاء، لكنها لم تتعرّض لأي تهديد يستدعي قلقها، ولم تفقد أيّاً من «أوراقها» بعد، إلا أنها واجهت ضرورة مراجعة حساباتها، وأهمها لجم تحرّشات بحرية «الحرس الثوري» بالسفن الأميركية في مياه الخليج. كل ما فعلته واشنطن - ترامب، حتى الآن، أنها غيّرت اللهجة المسايرة، متخلّية عن دبلوماسية المجاملة التي اتّبعتها واشنطن - أوباما إزاء إيران. وبدا ذلك كافياً لاضطرار طهران إلى الانكماش وإعادة النظر في أوضاع «إمبراطوريتها». وكانت إيران استفادت إلى أقصى حدّ من ضعف إدارة أوباما وتردّدها، وعرفت كيف تستثمر المساحات الغامضة في دبلوماسيته محقّقة استفادة قصوى منها. لكن نهج الرئيس الأميركي السابق لا ينفي أنه هو مَن هندس رزم العقوبات الأكثر قسوة على إيران، بغية الحصول على الاتفاق النووي و«ما بعده». جاء الاتفاق ملتبساً ولم يحقق النتائج السياسية التي توقّعها أوباما، لكنه في المقابل منح إيران - قبل الاتفاق وبعده - حرية حركة ما لبثت أن حوّلتها إلى نوع من «المشروعية» والقبول الأميركيين لتدخّلاتها. ففي الأزمة التي سبقت ظهور تنظيم «داعش» في العراق، ورغم إدراكها للمخاطر، اختارت واشنطن توجيه نصائح شكلية لنوري المالكي الذي كان ينفّذ أجندة إيرانية. وفي البحرين أعطت المواقف الأميركية للمعارضين انطباعاً بأن تتعاطف مع «انقلاب سياسي» يسعون إليه بدعم إيراني. وفي اليمن ساهمت الدبلوماسية الأميركية في تغطية «الحوثيين»، مدافعة باستمرار عن موقع ودور لهم، قبل انقلابهم وبعده، ودأبت على ذلك في مفاوضات الكويت وحتى الأسابيع الأخيرة من ولاية أوباما. وفي سوريا تعاملت أميركا باكراً مع إيران على أنها «شريك» وليست خصماً، باعتبار أن دعمها بقاء بشار الأسد في السلطة يتطابق مع موقف إسرائيلي، وتعاملت مع أطماع إيران في سوريا على أنها طموحات طبيعية. ورغم العداء المعلن لـ «حزب الله»، لم يوفّر الدعم الأميركي حمايةً للقوى المحلية الأخرى التي تعرّضت للاغتيال والتهديد على أيدي هذا «الحزب». وفي ملفَّي التدخل في شؤون دول الخليج ورعاية جماعات الإرهاب لم تبدِ إدارة أوباما حزماً كافياً لردع إيران. حصل التغيير الأميركي في لحظة غير مناسبة لإيران، فهي قد تكون حققت هيمنةً تظنها غير قابلة للتراجع في العراق، لكنها تجد الآن أن نفوذها في سوريا موضع مساومة أميركية - روسية، وأن أي صفقات أو حلول سياسية لن تتيح لها ترميم نفوذها الذي ضُرب في اليمن. حتى في العراق لا تبدو مرحلة «ما بعد داعش» متجهة إلى السياق الذي تتمنّاه طهران، خصوصاً إذا كان الهدف إعادة الاستقرار وتعزيز مكانة الدولة وتفعيل مصالحة وطنية، وكل ذلك يقود بالضرورة إلى طرح مصير الميليشيات التي أنشأها الإيرانيون لتكون بمثابة دولة موازية. وعلى جانب آخر فإن التوجه إلى تقليص وجود إيران في سوريا لقاء منحها حدّاً أدنى من المصالح، لا بدّ أن ينعكس على الهيمنة الفظّة التي يمارسها «حزب الله» في لبنان. ولا شك أن أولوية ضرب الإرهاب في استراتيجية إدارة ترامب تعني الاصطدام باستراتيجية تصنيع الإرهاب وتوظيفه لتحقيق مصالح إيران. كما أن عودة الاهتمام الأميركي بأمن دول الخليج وتدعيم قدراتها الدفاعية من شأنها أن تدفع إيران إلى مراجعة أولوياتها. ليست هناك حرب حتمية، في حدود ما هو قائم الآن، وليست مستبعدة كلّياً. لكن إيران لا تجازف، مهما كانت الظروف، بتعريض أراضيها فيما هي تكافح لإنهاض اقتصادها، حتى لو كانت قادرة على الردّ، فالردّ يستدعي ردوداً مضادةً أعلى. وإذ اختارت دائماً خوض الحروب بالوكالة، معتمدة على أدواتها الميليشياوية المحلية التي زرعها «مستشاروها» هنا وهناك، فإنها تعتبر أن هذه الأدوات ملزمة بالدفاع عن النفوذ الإيراني لأنها توجد وتستمر بفضله أو تضمحل بتراجعه. وبالتالي فإن استخدام هذه الأدوات لإشعال مواجهات وحروب سيكون وسيلة إيران لاستدراج القوى الدولية إلى مساومتها والتفاهم معها، لكنها لن تتوصل إلى الحفاظ على مصالحها من دون ثمن، ومن الطبيعي أن يكون أوّل الأثمان تفكيك هذه الميليشيات وتقليصها أو التفاوض على دمجها وتذويبها. لذلك فإن مراجعة الحسابات تنطوي حالياً على تموضع مختلف لتلك الأدوات وتحديد ما يمكن الاستغناء عنه وفي أي مرحلة.