هل باتت «الروسفوبيا» هي أحدث وسائل الدولة العميقة الأميركية لمحاربة الرئيس الأميركي الجديد؟ على غير المتوقع يبدو مسار العلاقات الروسية - الأميركية يمضي في اتجاه مغاير لما توقعه العديد من الخبراء والمحللين الذين تفاءلوا بمواقف دونالد ترامب من روسيا بشكل عام، وإعجابه الشخصي بالرئيس فلاديمير بوتين بنوع خاص. قبل أيام قليلة كانت الخارجية الروسية تشير إلى أن علاقات موسكو وواشنطن قد وصلت إلي أدنى مستوى لها منذ الحرب الباردة، مضيفة أن معارضي الرئيس الأميركي يستخدمون رهاب روسيا أو «روسوفوبيا» لأجل النيل من مصداقيته... هل يعني ذلك أن هناك بالفعل من أطراف الدولة الأميركية العميقة من يحاول قطع الطريق على الانفراجة التي لاحت في الأفق علاماتها بين موسكو وواشنطن؟ في الخطاب الأخير لترامب أمام الكونجرس، وعلى عكس سلفه باراك أوباما الذي اعتاد على ذكر روسيا بوصفها العدو الأول لبلاده، ووصل به الأمر درجة وضع موسكو إلى جانب تنظيم «داعش» على رأس قائمة المخاطر الدولية، تجنب ترامب بالمرة الحديث عن روسيا. في هذا الإطار يبدو أن الروس أنفسهم بدؤوا في إدراك الأمر مبكراً، وإن تركوا الباب مفتوحاً أمام المبادرات الإيجابية من الجانب الأميركي، مع هامش واضح من الهواجس والشكوك، كيف ذلك؟ في الأول من مارس الجاري تحدث ديمتري بيسكوف، الناطق الصحفي باسم الرئيس الروسي، بالقول: «لقد سمعنا تصريحات مختلفة من ترامب، وفي هذه الحالة فإننا نتحلى بالصبر وننتظر أفعالاً ستلبي تصريحاته، لكي نفهم من أين يمكننا أن ننطلق». يدرك الكرملين جيداً أن هناك بعض التصريحات التي صدرت عن إدارة ترامب لا تمضي في صالح تحسين العلاقات، مثل تصريح مندوبة الولايات المتحدة السفيرة «نيكي هالي» عن حتمية عودة شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا، ليس هذا فحسب، ذلك أن التحقيقات الموسعة التي يجريها جهاز المباحث الفيدرالية ‏FBI ?حول ?علاقة ?حملة ?ترامب ?الانتخابية ?بروسيا، ?وها ?نحن ?نرى ?أنه ?بعد ?استقالة ?مستشار ?الأمن ?القومي ?الجنرال ?«مايكل ?فلين»، ?تدور ?الدوائر ?بقوة ?حول ?العديد ?من ?رجالات ?ترامب، ?وربما ?يكون ?منهم «?جيف ?سيشنز» ?النائب ?العام ?ووزير ?العدل ?الأميركي. مراقبو المشهد الأميركي - الروسي يتساءلون:«هل الروس أبرياء بالمطلق، وأن «الروسوفوبيا» هي نتاج طبيعي لحالة الخوف من عودة العلاقات الأميركية - الروسية إلى مسار آمن، سيما وأن ترامب لا يسعى لحروب مع الروس، بل تعاون خاصة في مواجهة الجماعات الراديكالية حول العالم؟ قطعاً، إن تحسين حال ومآل المسارات من واشنطن إلي موسكو، سوف يختصم من موازنات أجهزة الاستخبارات والتي يهمها بالدرجة الأولى، تخليق أعداء حقيقيين أو وهميين لضمان زيادة مخصصاتهم المالية. الأمر ذاته ينسحب على أصحاب المجمع الصناعي العسكري الأميركي، من جنرالات حروب، وأصحاب صناعات عسكرية، وأعضاء في الكونجرس، المهتمين بأن يبقى هناك عدو في الأفق، ذلك أن «العدو الجيد هو مفتاح المجتمع المتوازن»، كما يقول الروائي والدبلوماسي الفرنسي «جان كريستوف روفان». مجابهة ترامب الساعي للمسامحة والمصالحة مع الروس لا تتوقف عند حدود «الديمقراطيين»، بل تمتد كذلك إلى قطاع كبير من «الجمهوريين» الناقدين.. ما السر؟ أحد أفضل الذين أماطوا اللثام عن حقيقة الصراع الداخلي الدائر بين «الجمهوريين» أنفسهم مؤخراً، كان «رون أليدو» المسؤول الاستخباراتي الأميركي النافذ والسابق، في حواره مع «ليونيد سافين» رئيس تحرير موقع جيوبوليتيكا والصحفي والمحلل الروسي الشهير. يكشف لنا «أليدو» عن وجود حرب أهلية داخل الحزب «الجمهوري»، فعلى جانب هناك «المحافظين الجدد» من الصقور أصحاب أفكار العولمة، وعلى ناحية أخرى هناك المحافظون التقليديون الذين يمثلون الجناح اليميني في الحزب. وضمن المحافظين التقليديين نجد السيناتور المعروف «جون ماكين» صاحب النضالات العسكرية في فيتنام، والمرشح السابق للرئاسة الأميركية، وغير المصدق أن ترامب الآتي من خارج المؤسسة السياسية الأميركية، قد أضحى رئيساً للبلاد. أمضى «ماكين» سنوات عمره في اعتبار أن روسيا هي العدو الاستراتيجي للبلاد، وعلى هذه الحقيقة التي كانت، بنى هو وأقرانه شهرتهم، وغناهم المالي، بل إنهم حتى الساعة موقنون بأن روسيا الاتحادية الحالية، ليست إلا امتداداً للاتحاد السوفييتي الشيوعي الملحد، وفاتهم الدور التجديدي للأرثوذكسية الروسية حول العالم. «الجمهوريون» أصحاب نظرية العولمة يميلون إلى فكرة السيادة والهيمنة الأميركية المطلقة، ودليلهم توجيه «استراتيجية القرن ‏PNAC» الموضوعة ?في ?نهاية ?التسعينيات، ?وميولهم ?تمضي ?في ?طريق ?محرقة ?الحرب ?العالمية ?الثالثة. أما المحافظون التقليديون من أمثال «بات بوكانان» و«توماس فليمنغ» و«ستيف بانون» فيتبعون سياسة براجماتية خارجية تعتمد المسيحية التقليدية والمصالح الأميركية كدليل لأهدافها، وهؤلاء يمكن أن يلتقوا كثيراً وعميقاً مع روسيا - بوتين، في مواجهة الأطماع الصينية أو الراديكالية الأصولية الإرهابية. في ضوء هذا التحليل المختصر، يفهم المرء محاولات رجل وول ستريت «جورج سورس» تشويه سمعة دونالد ترامب صباح مساء كل يوم، وهنا أيضاً تكون لخشية روسيا انتهاء شهر العسل مبكراً مع ترامب مساحة من واقع، تدفع الكرملين لاعتبار أن تحسن العلاقات مرهون بالتوصل إلى حلول وسط على المدى البعيد. من سيقدر له النصر في هذه المواجهة؟ الجواب غير واضح، وربما الصفقات السرية تعقد الآن في الداخل الأميركي، وقد يكون لدى أجهزة الاستخبارات الأميركية ما يدين ترامب والروس فعلاً... إنها ملامح عالم مضطرب من أدناه إلى أقصاه. إميل أمين* *كاتب مصري