في يوم 7 مايو 2017، ستختار فرنسا رئيس دولة جديداً، هو الثامن في الجمهورية الـ5. وفي هذا النظام، الذي أرساه الجنرال ديغول سنة 1958، فرئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو من يقرر التوجهات الاستراتيجية الكبرى للبلد. وفي هذه اللحظة، تركز الحملة الانتخابية على شخصيات المرشحين، والمسائل الاقتصادية والاجتماعية، في حين تكاد تغيب الشؤون الدولية، حتى الآن، ولا تكتسي صفة مركزية في سجال الحملة. ومع ذلك فستنال مع الوقت اهتماماً كبيراً لا محالة، بالنظر إلى حساسية الفرنسيين المعتادة لمكانة بلادهم على الساحة الدولية. ومع أن المسائل الاستراتيجية ليست كافية وحدها عادة لتحقيق الفوز في انتخابات رئاسية، فإنها يمكن أن تتسبب أيضاً في خسارتها. وأي مرشح لا يبدو محل مصداقية في عيون الفرنسيين، لكي يمثلهم أحسن تمثيل على المستوى الدولي، ويدافع عن مواقف بلدهم في المحافل العالمية، تبقى فرصه في الانتخاب محدودة للغاية. والسياسة الخارجية الفرنسية ليست محل استقطاب بين اليمين واليسار، وإنما الاستقطاب فيها قائم بين أنصار الخط الديجولي- الميتراني، من جانب، وأنصار الخط الأطلسي أو «الغربوي» Occidentaliste من جانب آخر. ويرى الديجوليون- الميترانيون أن فرنسا لا يمكن اختزالها في وضعيتها كدولة غربية: ولئن كانت كذلك بالفعل، فليس هذا هو كل شيء عن مكانتها الدولية، فلها دور ذو خصوصية يتعين عليها لعبه مع دول الجنوب سابقاً، الدول البازغة اليوم. وبهذه الطريقة يمكن توسيع هوامش تحركها، وزيادة تأثيرها وثقلها على المسرح الدولي. وهذا يعني أن عليها الاحتفاظ بخط مستقل، لا أن تنخرط في منظومة تحالف جامد يفرض، لواجب التضامن في كل الأحوال، من المواقف ما يحرمها من التصرف والتفكير بصفة مستقلة. وفرنسا لا تكون قوية إلا عندما تضع في الاعتبار المصالح العامة المنسجمة مع الحلفاء ومصالحها الخاصة المستندة إلى خصوصية حالتها: بلد، ذو رؤية بعيدة، ومقاربة دولية شاملة بحكم التاريخ، ولكنه لم يعد أيضاً يستبطن أوهام القدرة على فرض رؤيته على الآخرين. وعلى سبيل المقارنة، فالولايات المتحدة مثلاً تحاول فرض رؤيتها على الغير، ولذلك تثور في وجهها المواقف المعارضة، في كثير من الأحيان. وكذلك ألمانيا، لأسباب تاريخية، لا تتبنى رؤية دولية شاملة، وروسيا والصين لا تستبطنان القيم العالمية الجامعة. وفي المقابل، يرى الأطلسيون بالأمس، «الغربويون» اليوم، أن فرنسا تعرَّف، قبل أي شيء آخر، بانتمائها إلى أسرة سياسية يتعين عليها إبداء التضامن والتعاون معها في كل الأحوال. وعندما يمثل تهديد ما خطراً على وجودها، أو سلامتها واستقلالها، فإن عليها القبول بدخول المواجهة خلف قوة عظمى قائدة أكثر منها شدة وقوة. وبالأمس القريب، كان «الأطلسيون» ينافحون بأن على فرنسا، في مواجهة التهديد الشيوعي، أن تنخرط دون أدنى تردد خلف القوة العظمى الأميركية. واليوم، ينافح «الغربويون» أيضاً عن الطرح نفسه وفي الاتجاه ذاته، في مواجهة عودة روسيا، وتهديد الصين، وكذلك، بطبيعة الحال، خطر الإرهاب الإسلاموي، هذا دون أن يكون أي من هذه التحديات معرّفاً أصلاً بصورة دقيقة أو محددة. ويظن أنصار النزوع «الغربوي» هؤلاء أن الحضارة الغربية متفوقة، أخلاقياً، على غيرها، ومن ثم فإن من مصلحة العالم (ومن مصلحتنا نحن)، أن نفرض رؤانا على البلدان الأخرى، التي هي، في الغالب، ديكتاتوريات. ولفترة طويلة من الزمن ظل هؤلاء ينافحون بحماس عن ضرورة فرض رؤانا وقيمنا بالقوة على الآخرين، ولكن خيبات الأمل المريرة الأخيرة التي تكشّفت عنها التدخلات العسكرية التي قادتها البلدان الغربية سدّت بشكل كبير من شهية التدخل الغربي الذي كانوا يدافعون عنه. والمفارقة أن مثل هذه التدخلات ينظر إليها «الغربويون» المتحمسون هؤلاء كتعبير عن عدم تجاهل معاناة الآخرين، ومن ثم ضرورة الذهاب لمساعدتهم! هذا في حين يرى أنصار التيار الديجولي- الميتراني (مثلما يرى مجمل دول الجنوب، بما في ذلك دول ديمقراطية) أن تلك التدخلات الغربية هي، بالأحرى، شكل من أشكال الاستعمار الجديد المتخفي في قناع زائف من النوايا الحسنة المزعومة. ومن اللافت أن المرشحَين الأكثر قرباً من التيار «الغربوي»، وهما نيكولا ساركوزي (في معسكر اليمين) ومانويل فالس (في معسكر اليسار)، لم يفز أي منهما في الانتخابات التمهيدية على مستوى حزبه. وبدلاً منهما فاز ببطاقة الترشيح الحزبية للرئاسة فرانسوا فيون (عن حزب الجمهوريين) وبنوا هامون (عن الحزب الاشتراكي). وهذان المرشحان يُصنفان في تيار الخط الديجولي- الميتراني في السياسة الخارجية، ومثلهما المرشح جان- لوك ميلانشون (عن حزب اليسار). وهنالك مرشح آخر هو إيمانويل ماكرون ما زال لم يفصح بعد عن خياره في هذا الموضوع. أما مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبن، فنزعتها «الغربوية» مشهورة ومشهودة، طبعاً باستثناء رغبتها في التقارب مع روسيا.