«كانت الريح تدفعهما من الخلف بقوة، وهما يعبران الساحة العريضة تحت سماء بيضاء بعيدة. خفقت أصابعها في كفه، فالتفت إليها، وأشارت نحو الغرب، وقالت: السماء أكثر بياضاً هناك. قال: الشمس تدور هناك خلف الأفق، ستظل تدور بمحاذاته ثم ترتفع مرة أخرى من الشرق». هكذا تبدأ قصة قصيرة عثرتُ على مخطوطتها بين أوراق منزلي في ضاحية جنوب لندن. كتبتُ القصة غير المنشورة أثناء دراستي في الاتحاد السوفييتي الذي تحل هذا العام الذكرى المئوية لإنشائه. وكنت آنذاك أتبع تعاليم الأديب الأميركي أرنست همنغواي في أن لا أكتب إلا ما أعرفه وما جرى فعلاً. «كانت السماء فوق الأفق الغربي مضيئة ومرئية، ثم تخافت ضوؤها وأخذت تتعاتم. التفتَ إلى الخلف بوجه الريح فرأى صفوف النوافذ المضيئة لجامعة موسكو. وسمع صوتها تقول: لنلتف حول الكنيسة، سنرى موسكو عند حافة التلال. وتركت يده راكضة بمحاذاة سياج الكنيسة، وتوقفت فجأةً، وألصقت رأسها بالسياج. اقترب منها، وأشارت بإصبعها عبر السياج، وهمست: اكتشفت مقبرة صغيرة. انظر. تطلع نحو حديقة الكنيسة فرأى قبرين أبيضين يطلان من بين الأحراش القصيرة، وهَمَست: لم أنتبه إليهما في الصباح. سألها: وهل كنتِ صباح اليوم هنا؟ قالت: اسمع.. اسمع. قرّبَ أذنه من سياج الكنيسة الحديدي البارد، فسمع وشوشة ماء. كان الصوت ضعيفاً، وأمالت هي رأسها نحو السياج، رافعة حاجبيها القصيرين إلى الأعلى، تتنصت وتبتسم. سألها مرة أخرى: هل كنتِ هنا صباح اليوم؟ انخفض حاجباها، وحدّقت في عينيه ضاحكة، وقالت: أجل. سأَلها: وحدك؟ قالت: وحدي. وعضّت شفتها العليا، وقالت: أولعتُ شمعتين في مذبح الكنيسة. سألها: لماذا؟ قالت: ماذا؟ سأل: لماذا أشعلت شمعتين في الكنيسة؟ قالت: أوه! وضحكت مرة أخرى. قال: ولكنك شيوعية؟ قالت: وما يعني هذا؟ قال: لا بد أن يكون هناك سبب ما. أعني أنك تطلبين شيئاً ما من الله. قالت: لكني لم أطلب أي شيء! والتفتت نحوه فاغرة فاها. قال لها: أنت لا تريدين من الله أيّ شيء إذن. عادت تتطلع داخل حديقة الكنيسة، ضاغطة جبينها نحو كفيها الممسكين بالسياج، ثم قالت: لكني لا أعتقد بذلك. والتفتت نحوه محدقةً في جبينه، والريح تلفُّ أطراف شعرها حول عنقها، وتبعثره فوق ذقنها وشفتيها. أزاحت شعرها ممسكة به وراء عنقها، وسألته: لماذا تضحك؟ قال: أنا لا أضحك. قالت: لكنك كنت تضحك.. تنظر نحوي وتضحك. قال: لم أكن أضحك. قالت: أوه.. أنت أحمق. وضحكت. عَضّت شفتها السفلى، ولطمته على ذقنه، وأخذت تركض، فركض وراءها متجاوزين الكنيسة، ثم انحدرا نحو حافة التلال، وانبثقت موسكو في الأسفل، تتوهج بأنوارها تحت السماء البيضاء، وتومض فيها نقط نور تدور وتختفي. والريح لا تفتأ تدوي في الخلف، وتحت أقدامهما تنحدر التلال بأشجارها المضيئة إلى النهر. وهبطت هي نحو الأرض، فارتمى بجانبها، وتطلّعَا إلى السماء البعيدة البيضاء فوقهما. لم تعد الريح تدفعهما من الخلف، إلاّ أنها كانت ما تزال تُدّوي في الأعالي. وأخذ يعبث بالتراب، وينصت لصوت الريح. قالت: أنت تضحك أيضاً. أجابها: أجل. سألت: ماذا يضحكك الآن؟ قال: لا شيء. أنا أضحك هكذا. سألت: كيف تضحك هكذا؟ أنت تحفر الأرض بأصابعك وتضحك! ها ها! أنت ما تزال تضحك؟! قال: لكني لا أعرف لماذا أضحك. قالت: كيف لا تعرف لماذا تضحك؟ قال: حسناً، أنا لا أعرف أيّ شيء مطلقاً، ألا يُضحك هذا؟ جذبته من شعره، وقالت: أنت مجنون أيضاً! قفز على قدميه، وتناول حجارة من الأرض ورماها نحو أعالي التلال، وهو يضحك بصوتٍ عالٍ».