تمثل هجرة الأدمغة في العالم العربي مشكلة عويصة، وهي لم تجد إلى الآن حلاً يوقف هذا النزيف المتواصل، رغم وجود إدراك رسمي مبكر حول خطورتها، حيث نجد في بيان لمؤتمر وزراء التربية والتخطيط الاقتصادي العرب، المنعقد في أبوظبي عام 1977، ما يلي: «من المشاكل الرئيسة التي تشغل بال الأمة العربية، في كل مكان، هجرة الكفاءات إلى الخارج، مما يشكل خسارة بالغة لا تقدر بثمن». كان ذلك قبل قرابة نصف قرن، لكن العالم العربي لم يجد إلى الآن حلا لمشكلة هجرة الأدمغة، بل انضافت إليها ظواهر خطيرة في العقد الأخير، مما فاقم الاضطراب المجتمعي والإفقار الاقتصادي والتراجع في منظومة حقوق الإنسان.. مما أصبح يهدد العديد من المجتمعات العربية. والغريب أن مشكلة هجرة الأدمغة والطاقات البشرية، والتي شغلت اهتمام الكثيرين، بحثاً وتنقيباً عن الحلول، لم تعد تشغل اهتمام المسؤولين على نحو فعلي حقاً، في ظل حالة من التقاعس واليأس حيال تلك المشاكل وغيرها، من ثم توسيع قطاعات الاقتصاد والعلم والسياسة بصيغة تفعل القلب الحيوي للمجتمع بأسره. وقد تحول الأمر إلى ظاهرة مستفحلة، ثم حدث الشرخ الخطير في أقطار عربية معينة، كاليمن والعراق وسوريا وليبيا، ذلك الشرخ الذي راح يتعاظم منتجاً صراعات مسلحة مدمرة، وكانت الفرصة قد نشأت بقوة وإصرار على محاولة حصار العالم العربي. لقد أظهرت تلك الحالة بذوراً متعاظمة لتوحيد العالم العربي نفسه، وفي مقدمتها المحاولات الرامية لدرء مخاطر «داعش»، وإن كان الثمن باهظاً، حيث تمثل في إشعال حرب في سوريا تحولت إلى حرب شاملة قد تصبح شرارة حرب عالمية. لكن الأمر يتعلق بأمر آخر أسهم إسهاماً هائلاً في تشتيت نسب عالية من سكان الوطن الجريح. ذلك هو فتح أبواب الهجرة من الوطن البائس في طاقاته المادية، إلى خارجه. إن «الخارج» هنا يعني الخارج العربي بالدرجة الثانية والخارجي العالمي بالدرجة الأولى. لقد تبلورت الفئات المعرضة لضرورات الهجرة واحتمالات التهجير المفتوحة، ضمن فئة الشباب من الجنسين، لكنها اتسعت لتشمل كل سكان الوطن العربي، خصوصاً من تونس والعراق وسوريا وليبيا واليمن وفلسطين والسودان. ومع اتساع الحرب السورية، راحت حركة النزوح والهجرة تتسع لتشمل معظم السوريين. وكان على البلدان التي اتجهت إليها مجموعات اللجوء المتزايدة أن تلجأ إلى إجراءات أمنية متزايدة لحماية أمنها الوطني. لقد تعاظمت عملية النزوح إلى الخارج، كما اتسعت أعمال العنف، بالتزامن مع استمرار الأحداث السورية والعراقية واليمنية خصوصاً. وبدا الأمر وكأن حرباً عالمية، بحيث لم يعد هناك ذكر للقضايا الأخرى في أجندة الشعوب العربية، وفي مقدمتها الأضرار الناجمة عن هجرة مجموعات ضخمة، بينها فئات من المثقفين والعلماء والاختصاصيين. ومن الأضرار الأخرى المتأتية عن ذلك، تضاؤل نسب الشباب والعمال والعائلات التي راحت تتعاظم بطريقة مأساوية. وكان العدد وما يزال متعاظماً، لاسيما بالنسبة لأساتذة الجامعات والمهندسين والعلماء وغيرهم. إن قضية الهجرة تمثل خطورة كبيرة في نطاق الأحداث الحالية، وترتفع خطورتها إلى مستوى المحافظة على وجود الطواقم الضرورية من العاملين فيها ضمن أجهزة الدول، فكأن مفهوم الدولة في الوطن العربي الآن أصبح ضيقاً، وصار أسيراً لأمور كثيرة، بسبب تصدع قواعد العمل واضطراب متابعة الموظفين العموميين، وهيمنة آخرين على أركان المؤسسات الشرعية. وفي السابق، شملت الهجرات من الوطن العربي حاملي الكفاءات والاختصاصات، لكنها الآن أصبحت تستنزف الجمهور الأعظم من السكان.