عندما دعا الجنرال روبرت جونز نائب قائد «قوة المهام المشتركة»، التابعة للتحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» إلى تخلي تركيا عن خطة التقدم نحو مدينة منبج الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، كان الوضع في شمال سوريا يزداد تعقيداً بعد سيطرة قوات تركية وفصائل سورية متحالفة معها على مدينة الباب. جاء حديث جونز في مؤتمر صحفي على هامش اجتماع للتحالف الدولي استضافته الخارجية البريطانية في 28 فبراير الماضي، فيما تحركت مدرعات أميركية إلى محيط مدينة منبج، وأعقب ذلك اتفاق برعاية روسية يقضي بتسلم قوات نظام الأسد قرى يسيطر عليها مقاتلو «قسد» وتمثل خط تماس محتقن مع القوات التركية وحلفائها. وأظهرت تصريحات أدلى بها الرئيس التركي أردوغان تجدد الخلاف بين تركيا وكل من الولايات المتحدة وروسيا حول ترتيب الوضع في شمال سوريا، والإعداد لمعركة تحرير مدينة الرقة من براثن «داعش». فقد طالب أردوغان مجدداً باستبعاد «قسد»، التي تُمثَّل مليشيا «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» المعادي لأنقرة ركيزتها، من معركة الرقة. ولم يخف إحباطه من سياسة إدارة ترامب التي لا تختلف حتى الآن عن توجهات سابقتها بشأن إدارة التوازنات السياسية والعسكرية في شمال سوريا. ومن شأن استمرار هذه السياسة إرباك الخطة التي وضعتها تركيا عندما بدأت قواتها وفصائل تابعة لها في «الجيش الحر» معركة «درع الفرات» في شمال سوريا في أغسطس الماضي. وتقوم هذه الخطة على ثلاث مراحل؛ الأولى تحرير جرابلس وإعزاز وبعدهما الباب من «داعش»، ثم التقدم صوب مدينة منبج في مرحلة ثانية لطرد مقاتلي «قسد» أو دفعهم لمغادرتها والتوجه إلى شرق نهر الفرات. أما الثالثة، فهي المشاركة بدور رئيس في معركة تحرير مدينة الرقة. غير أن هذه الخطة صارت مهددة بالتوقف، بعد أن بات المضي قدماً فيها صعباً ومكلفاً سياسياً وعسكرياً، رغم إسراع الفصائل المدعومة تركياً إلى شن هجوم في قرى تسيطر عليها «قدس» في ريف منبج فور تحرير مدينة الباب من «داعش». فقد أصبح الطريق إلى مدينة منبج محفوفاً بخطر مواجهة سياسية مع واشنطن وموسكو في آنٍ معاً، وبالتالي مغامرة عسكرية إذا حافظ الأميركيون والروس على التزامهم بإبقاء منبج تحت سيطرة «قسد» في المرحلة الراهنة. ويعني ذلك أنه بات على تركيا التفكير جدياً في جدوى التمسك بخطتها، وحساب التكلفة السياسية والعسكرية حال سعيها لانتزاع منبج من مقاتلي «قسد». وقد ظهر في الأسابيع الأخيرة ما قد يكون تفاهماً بين الولايات المتحدة وروسيا على إمكان استبعاد تركيا من معركة الرقة إذا أصرت على مواصلة التصعيد ضد «قسد»، ومعالجة المخاوف التي تثيرها أنقرة بشأن تداعيات سيطرة قوات معظمها كردية على الرقة بعد تحريرها عن طريق تدعيم الفرع العربي في هذه القوات بمقاتلين عرب آخرين بعضهم من أبناء عشائر شمال سوريا، والبعض الآخر من قوات أحمد الجربا. وربما كان من ملامح هذا التفاهم التزامن بين تحريك المدرعات الأميركية في محيط مدينة منبج الشمالي، والاتفاق على الفصل بين القوات التركية وحلفائها وبين مقاتلي «قسد»، فضلاً عن تحرك قوات نظام الأسد وحلفائها للسيطرة على الأراضي الواقعة جنوب الأوتوستراد الدولي الرابط بين مدينتي الباب والرقة. ويعني ذلك أن وصول قوات تركية إلى مدينة الرقة صار صعباً إذا لم تقبل تنسيقاً مع «قسد». فثمة طريقان لقوات تركيا وحلفائها إلى الرقة؛ أولهما عبر منبج التي تلتزم واشنطن وموسكو بالمحافظة على وجود «قسد» فيها، والثاني يمر من مدينة الباب جنوباً باتجاه نهر الفرات، ثم إلى مدينة الطبقة وصولاً إلى الرقة، وهذا مسار خطر قد يضع القوات التركية وحلفائها في مرمى نيران «قسد» عند ضفة الفرات، ويهدد بمواجهة عسكرية مع قوات النظام السوري المتمركزة جنوب مدينة الباب، وأخرى مبكرة مع عناصر «داعش» المنتشرين في المنطقة بين جنوب شرق حلب وجنوب غرب الرقة. وهكذا، وبعد أن حققت تركيا نجاحاً في المرحلة الأولى من خطتها وسيطرت على الباب، تصطدم الآن بمعطيات الأمر الواقع التي لا تسمح لها بالتقدم أكثر في شمال سوريا.