تشير التحليلات السياسية إلى أن تصاعد نزعات الانعزال ماضية في تغيير ملامح النظام الدولي، مدلّلة إلى ذلك بردود فعل شعبية أو شعبوية ظهرت خصوصاً بالاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي ثم بانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة وتصاعد نزعات اليمين المتطرف في أوروبا. وتُذكر الأزمة الاقتصادية وموجات اللجوء والهجرة والعمليات الإرهابية باعتبارها الأسباب العميقة لهذا التغيير، على رغم ضعف الترابط في ما بينها، إلا أن الرأي العام هنا وهناك استخلص منها اختلالاً في معيشته وأمنه، وبالتالي قلقاً على مستقبله، وصولاً إلى المطالبة بسياسات تقطع مع كل ما اتّبعته النخب الحكومية حتى الآن. لكن التغيير الأكثر خطراً وعمقاً هو الذي يتراءى في مجلس الأمن الدولي، سواء من خلال انقسام الدول الذي يفاقم حروباً ونزاعاتٍ قائمة ويفسد مكافحة الإرهاب أو من خلال نهج بلغ أخيراً حدّ إضعافٍ بالغ للقوانين الدولية وضربٍ متهور لمبادئ إنسانية بديهية ما كان ممكناً تخيّل التعرض لها تحت أي ظرف. وقد تجلّى ذلك في منحيَين، ظهر أولهما في استخدام روسيا والصين حق النقض ضد مشروع قرار لمعاقبة مسؤولين في النظام السوري عن استخدام الأسلحة الكيماوية، وكان ثانيهما في سياق الجلسة السنوية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حين لوّحت الولايات المتحدة بالانسحاب منه بسبب معاملته «الجائرة» لإسرائيل. لم يكن ذلك «الفيتو» الأول بل السابع الذي تشهره روسيا ضد قرار دولي يتعلّق بالأزمة السورية، وثمة من قال إن العقوبات المقترحة هي حلقة جديدة في سلسلة بدأت عام 2011 ولم تقدّم أو تؤخّر بالنظر إلى الفوضى القائمة في سوريا. ومع ذلك، هناك ما يستدعي التأمل والتحذير، فعدم تأثيرها في مجريات الأزمة لا يمنع أن مغزاها المعنوي مهم آنياً، وقد تكون لها فاعلية قانونية لاحقاً إذا أمكن تفعيل مسار قضائي ضد جرائم الحرب. فما الذي يعنيه إذن إحباط القرار؟ واقعياً، لا يمكن أن يعني رفض معاقبة مستخدمي الأسلحة الكيماوية سوى مباركة وتغطية دولية لاستخدامها ولمستخدميها، فهل هذا ما أرادته روسيا والصين؟ عملياً، لا يشكّل تسهيل الإفلات من المحاسبة والعقاب احتقاراً للقانون الذي يحظر أي استعمال للسلاح الكيماوي فحسب، بل لضحاياه خصوصاً وللإنسانية عموماً؟ ولعل أسوأ ما يتسم به «الفيتو» أنه يمنع حتى الأمم المتحدة نفسها من فتح نقاش دولي حول الأضرار الكارثية التي يتسبب بها، وحول جدوى التحقيقات التي تجريها المنظمة الدولية والوقائع التي تتوصّل إليها إذا كان «الفيتو» جاهزاً لحماية المجرمين وتشريع جرائمهم. وفي المقابل هناك تاريخ طويل من تشريع الجرائم والانتهاكات سجّلته الولايات المتحدة لحماية إسرائيل وتحصينها ليس فقط من المساءلة والإدانة بل حتى من الانتقاد والاتهام. وحين مرّرت واشنطن، في واقعة يتيمة، قراراً دولياً يطالب إسرائيل بوقف الاستيطان، باعتباره عقبةً أمام السلام، واجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي بالتوبيخ والتقريع، متوعّداً بأن الإدارة الجديدة ستنتقم وستكون أكثر عناية بمصالح دولته. ولم يتردّد أخيراً في التصريح بأنه طلب من إدارة دونالد ترامب الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان بغية «نزع الشرعية» عن هذه المؤسسة. وفي الاجتماع الأخير للمجلس في جنيف، قالت المندوبة الأميركية إن واشنطن في صدد إعادة النظر في عضويتها فيه، والسبب «عدم مصداقيته» و«وسواس إسرائيل» الذي يسيّر «تركيزه الجائر وغير المتوازن على دولة ديمقراطية واحدة هي إسرائيل». وتتناسى الولايات المتحدة أن إصرارها على تمييز إسرائيل وتغطية الفظائع التي ارتكبتها خلال حروبها والمعاملة اليومية الجائرة للشعب الفلسطيني لم يساعد في ردع سلطة الاحتلال عن مواصلة جرائمها. في استخدام الأسلحة المحرّمة، كما في مسائل حقوق الإنسان تحديداً تحت الاحتلال، لا مجال للمواقف الرمادية أو الانحيازية لأن الأمر يتعلق أولاً وأخيراً بالقوانين الدولية، وقد عانت المنطقة العربية ولا تزال تعاني من انتهاك هذه القوانين، كونها أرسلت رسالة خاطئة إلى بعض الأنظمة ومحبطة للشعوب. والأسوأ أن الدول الكبرى لا تقدّم خيارات بديلة، إذ إن «تسوية لافروف- كيري» عام 2013 لم تمنع النظام السوري من الاستمرار في استخدام الأسلحة الكيماوية. وقد برّر الرئيس الروسي «الفيتو» الأخير بأن فرض العقوبات خلال محادثات جنيف «غير مناسب مطلقاً»، ولكن هذه مجرّد ذريعة لا أكثر، وخصوصاً أن المساهمة الروسية في تسهيل تلك المحادثات ظلّت ملتبسة ومتواضعة. أما الحماية الأميركية المزمنة لإسرائيل فلا تلغي كونها دولة احتلال لها سجل أسود يوثق قمعها واضطهادها لشعب بأكمله، وبالتالي فإن الدفاع عنها يُفهم بأنه قبول لممارساتها.