واهماً يكون أو جاهلاً من يعتقد أن في هذا العصر هنالك من يحب الحرب ويهواها، فيهيئ لها ظروفها، ويخلق لها موجبات نشوبها. إن أغلب الحروب التي وقعت في التاريخ الحديث، بما فيهما الحربان العالميتان الأولى والثانية، منتصف القرن الماضي، كانت حروباً مفروضة، لم يسعَ إليها أصحابها. ولو استطاع المرء الذهاب أبعد، ليدخل إلى نفوس السياسيين والقياديين لوجد شيئاً عجباً، لوقف على رغبة جامحة تريد للحرب أن تتوقف اليوم قبل الغد، وعلى قلق ألاَّ يقتل شخص، أو يهدم مسكن، أو يتضرر مشفى. وهذا ما يؤكد قولنا: إن الحروب في أغلبها تكون مفروضة ولايجري السعي لها. إن الحرب هي بمثابة «الكرت» الأخير في جعبة أي سياسي، يُستخدم حينما تصل العملية السلمية إلى جدار مسدود. وهي هنا أشبه ما تكون بالكي، في حالة المرض الذي تفشل الأدوية في علاجه، وتعجز العقاقير عن طرده. إن عقلاء الأمم وحكمائها عبر التاريخ، يعلمون جيداً أن الحرب كريهة، ولو خيِّروا لما اختاروا الدخول فيها، بل لجنحوا إلى السلم وفضّلوه عليها. ورغم قساوة الحرب، أية حرب، إلا أن بإمكان المرء أن يحلُم، وأن يقاوم عبر الحلُم والشوق، ليقصّرَ عمر أية حرب في العالم. إن (أيُّ شوقٍ يسكَّنُ باللقاءِ، لا يعوَّل عليه) وهذا أمر طبيعي، يستطيع الإنسان تفهمه. وكلامٌ كهذا تجده في أدبيات المتصوّفة الدراويش ممن يعيشون على أطراف المدن العربية. في السياسة، يختلفُ الأمرُ كثيراً، فالسياسة كفيلة بأن تسكِّن كل شيء في القلب والروح، وإن كانت له علاقة عاطفيّة قوية. إلاَّ الشوق إلى الأوطان، حينما يستدرجك لتحلُم بأوطانك العربية وهي في ذروة أمنها وسلامتها وازدهارها. هذا النوع من الأشواق، السياسةُ تعجز أمامه عن فعل شيء، فتظل جذوة الشوق حيّةً في القلب مشبوبةً. والشوق هو الانتماء بمعناه الإنساني والقومي الواسع، من منا لا يهزّه الشوق إلى أوطاننا العربية، وهي سليمة وآمنة بكامل نضارتها؟! من منا لا يهزّه الشوق إلى أمته العربية، وهي سليمة معافاة بكامل بهائها؟! بالتأكيد جميعنا بلا استثناء. إننا نعلمُ أن في اليقظة، كلنا نملك عالماً واحداً. كما قال فلاسفة اليونان القدماء. لكن بالحُلُم، كلٌ منا يمتلك عالمه. نعم، ف(نحن منسوجون من السليلة نفسها التي نُسجت منها أحلامُنا) على ما ورد لدى شكسبير. إن الدعوة إلى الحُلم سنّة مفضّلة، بل واجب. كل الحضارات كانت في البداية أحلاماً، فلماذا لا نحلُم؟ ترى، ما الأحلام التي سنستدرجها لتكون حقيقة ماثلة بفعل الإرادة؟ ونحن الذين لا (نستهين بإرادة الرجال) أبداً، خصوصاً أن الرجال مخلوقون من أحلام اليقظة: يحلمُ المرء أن تنتهي حرب اليمن في خلال هذا العام، قبل نهايته، فالحرب استنزفت اليمنيين مالاً ورجالاً وجهداً وبنية تحتية، ولن يكافئ استمرارها، الشعب والأرض، سوى بالجوع والمرض والتخلف، والبوار، وربما (التقسيم) لا سمح الله. إن أي يوم يمد في عمر الحرب، لن يكون فيه جديد سوى تهلكة أخرى، ومرارة أشد. يحلمُ المرء صادقاً أن تنتهي الحرب، لتعود إلى هذه البلاد غير السعيدة، سعادتها وأكثر، يعود إليها استقرارها وأمنها وازدهارها، وتعود إلى مواردها الحياة دفّاقةً مُترعةً بالنماء والعطاء، وأن يعود إليها جمالها الذي لا ذبول بعده. وأن تعود إلى الإنسان اليمني، وهذا هو الأهم، حكمته التاريخية، التي كانت (سراجهُ) المضيء في الليالي المُدلهّمة.. حكمته التي ضاع عنها، فأضاعته، فضّل بعدها الطريق إلى الجبل ليجرفه السيل.