هذه الحياة أيام وسنوات تدور بدوران الساعة وتتساقط وتتواتر بتعاقب الفصول والأجيال، ويبقى الإنسان فيها يبحث عن ضالتهِ وهي السعادة. فعلى الرغم من تعدد تعريف السعادة، فإن أدق تعريف لها هو القدرة على الاستمتاع بالحياة. وفي التعريف كلمة مهمة وهي «القدرة»، ومن الفلسفة «الحكمة» القول إن القدرة تحمل وجوهاً عديدة، فهي تشير لدى عامة الناس إلى القدرة المالية التي تستطيع بها التمتع بشراء السلع والخدمات والتملك، وعند البعض تكون هذه القدرة هي القدرة الجسدية بما تحتوي من صحة بدنية وعقلية، لذا يجادل البعض بأن «السعادة» تتمركز في مرحلة الشباب وعنفوانهُ، إلى جانب من يضع ارتفاع معدل أعمار الناس مؤشراً يدل على السعادة مع توفر الخدمات الصحية العالية، وهناك من يرى أن السعادة مرتبطة بالعدالة في الحياة والقانون، وعلى هذا النحو فإن القدرة المالية وتوفر الخدمات الصحية وتحقيق العدالة والاهتمام بمرحلة الشباب، كلها تقود إلى ماهية وضع البيئة السياسية والاقتصادية للبلدان، فالدول التي لها معدل ناتج إجمالي عالٍ وتتوفر فيها العدالة القانونية والاجتماعية والخدمات الصحية العالية وفرص العمل والسكن والتعليم الرخيص، من الطبيعي أن تحتضن شريحة اجتماعية كبيرة تشعر بالسعادة، وقد يقود ذلك، بأن شعوب الدول الفقيرة أو المتوسطة لا تسودها أجواء من السعادة والسرور، حقيقة مثل تلك الدول تستطيع خلق السعادة من خلال تطبيق المشاركة السياسية العالية، وتبني أنظمة شبه اشتراكية وتحقيق معدل مقبول من التعليم والعدالة والخدمات الصحية والأعمال التطوعية المتعددة، ناهيك قبل كل شيء عن توفر الأمن العام والخاص للأفراد. حقيقةً، فالعمل التطوعي المتعدد «من قبل صناع الحياة والأمل والسعادة» أصبح مهماً في الدول المتقدمة والفقيرة على حد سواء، حيث يأتي لتلبية حاجات بيئية واجتماعية وإنسانية كحل المشاكل الاجتماعية ومساعدة وعلاج المحتاجين والفقراء إلى جانب أعمال التنمية والإغاثة وإنقاذ ضحايا الحروب والكوارث الطبيعية. جدير بالذكر أننا لا نستطيع التحدث عن السعادة في ظل التهديد بأسس الحياة، ففي حالات المجاعة والكوارث الطبيعية والحروب، البشر تبحث عن الحياة وأسسها من سلامة الجسد وتوفر الطعام والماء والمأوى، فبعد توفر الحياة نستطيع التحدث عن مستويات من السعادة والتعاسة. وفي جانب مهم في السعادة، تميل بعض الشعوب إلى كسر جمود حراك المستويات الطبقية الاجتماعية في بلدانها، من مظاهر ذلك الأمر، قبولهم بفرح شديد عندما يرون أشخاصاً ليسوا من أهل العلم والمعرفة، ولا من رجال الأعمال يصبحون أغنياء، خاصةً في حالات التوريث، ولاعبي الرياضة وممثلي السينما وغيرهم الكثير كالباعة الصغار وأصحاب الأفكار الابتكارية. وأتينا على ذكر أهل العلم والمعرفة، مما لا شك فيه أن المعرفة والعلم يقودان إلى التمكن من التعامل والتفاعل مع الحياة بكل منتجاتها وثقافاتها وتطوراتها، ولكن الإبحار والغوص في «المعرفة والعلم» ربما يؤديان إلى جدل الوصول إلى حقيقة الأشياء والواقع، الذي يترتب عليه بعض الأمراض النفسية، علاوة على ذلك، بعض أهل العلم من المستويات العالية لا يجدون في ما يعيشون من واقع مادي واجتماعي ما يسعدهم لأنهم قد أصبحوا يستصغرون كل شيء. وتتعقد السعادة والوصول إليها في بعض الثقافات والمجتمعات، فعلى سبيل المثال، نلاحظ في المجتمعات الشرقية والعربية خاصة، السعادة ترتبط إلى حد كبير بالمال والأبناء والأسرة، ومن لم يرزق بهذه النعمة تجده يقبل ذلك عبر الدين والقدر، وأن الله سيعوضهُ خيراً في الدنيا والآخرة. أجل الكثير من الناس والمجتمعات ترى السعادة في المعتقد الديني، فالسعادة في الأخلاق والعبادة والعمل الصالح وقبول الواقع المعيش، وإن بعد هذه الحياة الدنيا حساباً وثواباً وعقاباً، وهناك جنة ونار. وفي عالمنا العربي والإسلامي، شهدنا البعض من رجال الدين المتطرفين يستغلون حب وانتماء الناس للمعتقد الإسلامي، وتجد أفكارهم الخاطئة والخطيرة من ترك الدنيا والقتل والتدمير «في سبيل الله»، محلاً في رؤوس العديد من الشباب من أصحاب القوة البدنية والضعف الفكري، والذين يعيشون في وضع اجتماعي بائس وفقير، وسماؤهُ خالية من سحب العدالة والأمل، وكانت أعمالهم من القتل والانتحار والتدمير باسم الله تنشد سعادة الجنة حيث حور العين والملذات والحياة الأبدية. وفي الشؤون الدينية أيضاً، تسبب بعض رجال الدين الإسلامي في تعاسة بعض الناس، فلا شك أن خروج أفكار دينية متطرفة عارية من الإنسانية، إلى جانب التدخل بين مسلمات علمية وتأويل القرآن قد قاد قلة من الناس إلى الإلحاد، فمنهم من أصبح لا يشعر بالسعادة لغياب دور الدين في الحياة وفقدان الإيمان بالتعويض والثواب الإلهي، ومنهم من أخذ يهاجم كل الأديان. ولعل هنا من يخرج ليجادل، بل هناك مجتمعات ملحدة وسعيدة في الوقت نفسه، ولكن أيضاً تعاني تلك المجتمعات من ارتفاع معدلات الانتحار، فعملية «الانتحار» تنهي أقدس حقوق الإنسان على الإطلاق وهي الحياة، وتنحصر معظم حالات الانتحار بسبب غياب المعتقد الديني وأحياناً التطرف فيه، ومن الفقر والظلم، بالإضافة إلى الأمراض النفسية بسبب علات عقلية أو اجتماعية. ويبقى الإنسان دائماً يبحث عن السعادة من خلال محددات بيئتهِ الاجتماعية والسياسية، وغرائزهِ الفطرية، وإرادتهِ، ومعرفتهِ، وطموحهِ، وأفكارهِ ومعتقداتهِ، وخيالهِ، ووضعهِ المادي والمعنوي، وتبدو السعادة لدى البعض بأنها النجاح، والرضا، والإنجاز، والحب، والحرية، والقبول، والصحة، والعدالة، والأسرة، واللذة، والفرح، والمال، والمعتقد الديني وأحياناً التخلص من المعتقد الديني، حقيقةً السعادة مصطلح تتضارب فيه الأقوال والحكم والفلسفة، ولكن لن تشعر بالسعادة إذا لم تواجه وتعايش المضاد لها، لأن بالضد تنكشف معاني الأشياء كالخير والشر، والظلام والنور، والسرور والحزن، والسائل والصلب، ويمكن للإنسان أن يكون سعيداً في قدرتهِ على التمتع ومواجهة الحياة بكل ما تحمل من تحديات ومخاطر وإخفاقات ومعوقات ومتغيرات، فالسعادة يمكن اختزالها بأنها القدرة على التمتع بالحياة.