خلال زيارته مؤخراً للجزائر، صرّح «ايمانويل ماكرون» أحد أبرز المرشحين الفرنسيين للرئاسيات القادمة، أن الاستعمار الذي تعرضت له الجزائر «جريمة ضد الإنسانية»، ما ولّد جدلا عارماً في الساحة السياسية الفرنسية، حيث اعتبره العديدون إهانة لتاريخ فرنسا وتشويهاً لسمعتها وازدراءً لدماء قتلاها. «فرانسوا فيون»، مرشح اليمين الفرنسي، اعتبر أن للاستعمار جوانبه الإيجابية وأن فرنسا لا يمكن أن تعتذر عن ماضيها الاستعماري، مستعيداً مضمون القانون الذي قُدِّم للبرلمان الفرنسي عام 2005 حول إلزامية شرح الجوانب الإيجابية في الاستعمار لطلبة المدارس العمومية. وكان الرئيس السابق «نيكولا ساركوزي» قد ألقى عام 2007 محاضرة في جامعة دكار مبرراً ضمنياً الاستعمار الفرنسي لأفريقيا بقوله «إن الإنسان الأفريقي لم يتجذر في التاريخ» ولا يزال يحتاج لمن يأخذ بيده في مسار التحديث، وهي عبارات مستمدة مباشرة من حديث الفيلسوف الألماني «هيغل» عن أفريقيا في فلسفته للتاريخ (أفريقيا بلاد الهوية الجامدة التي لا تعرف فكرة الحرية واللحظة الأخلاقية). لا يمكن فصل هذا الجدل الجديد حول التركة الاستعمارية عن صعود الشعبويات الجديدة في الديمقراطيات الغربية (أوروبا وأميركا) التي ترتكز على تمجيد الهوية القومية مقابل الآخر «الغريب» وتقديس الذاكرة الوطنية إلى حد تبرير فظائع الاسترقاق والاستعمار وحروب الإبادة. والمعروف أن الظاهرة الاستعمارية ارتبطت تاريخياً بأيديولوجيا التحديث والتنوير الأوروبي باعتبار أن احتلال البلدان الأخرى يمليه «واجب» نقل المدنية والحضارة إلى «الشعوب المتوحشة أو البدائية»، بحيث تكون حروب الاستعمار «ضرورات مؤسفة» حسب عبارة «الكسيس دي توكوفيل». ومن هنا مفارقة الاستعمار بصفته «تحريراً قهرياً» لشعوب «متخلفة» تاريخياً، بما يفسر انحياز أبرز الوجوه الفلسفية والفكرية الأوروبية -بما فيها كارل ماركس- للحملات الاستعمارية. إن هذه المفارقة تفسر بكون حركيّة التنوير والحداثة وإن قامت على فكرة الكونية الإنسانية، فإنها اعتبرت أن الأمة القومية التي هي صيغة سياسية محدودة هي التعبير الفعلي عن هذه الكونية. ومن هنا العجز عن بناء تصور دستوري وقانوني يتناسب مع القيم الإنسانية في كليتها الشمولية، وحصر دائرة المواطنة والمساواة في الجسم السياسي للدولة السيادية. لقد تساءل الفيلسوف الكامروني «اشيل مبنبه» في كتابه الأخير «سياسات العداوة»: كيف يمكن أن ننعت المجتمعات الغربية بالديمقراطية في حين أنها تأسست على قاعدة نظام من التمييز العنيف على المستوى العالمي؟ ليبين أن تثبيت أسطورة «الديمقراطية الإنسانية» في هذه المجتمعات يحتاج دوماً إلى نقل هذا «العنف الأصلي» إلى الخارج، أي إلى المستوطنة الاستعمارية والمعسكرات والمنافي والسجون. إن هذا المنطق هو المستمر اليوم في الخطاب السياسي للحركات الشعبوية في نظرها للهويات الوطنية من منظور اثني بيولوجي مما لا معنى له في مجتمعات يقوم نسيجها على التداخل والامتزاج والتنوع، وتقوم فيها شرعية الاجتماع على قيم التعاقد والتضامن القانوني. وفق هذه المقاربات الشعبوية تتشكل في فرنسا «وزارة للهوية الوطنية» (في عهد ساركوزي) ويؤسس مركزا لضحايا المهاجرين في الولايات المتحدة، ويطالب في إسبانيا بالعودة إلى قانون النسب في تحديد المواطنة، بينما يصبح مطلب الاعتراف «بالدولة اليهودية» شرطاً للسلام مع الفلسطينيين بدلا من مبدأ الاعتراف بالدولة الإسرائيلية! وإذا كانت الحركة الصهيونية في تصورها البيولوجي الديني للهوية وفي مشروعها الاستيطاني، ظاهرة استعمارية تقليدية، فإن الخطر اليوم في سياسات اليمين الإسرائيلي الحاكم هو الانتقال من ثنائية المواطنة والأمة التي قامت عليها إسرائيل من حيث كونها مزدوجة النسيج القومي (بالنظر إلى وجود السكان العرب) إلى مبدا التماهي بين المواطنة والأمة بما يعني إلغاء الوجود الفلسطيني. والسؤال هو: هل يمكن لمدونة حقوق الإنسان وقيم التنوير التي تؤسسها أن تشكل اليوم دعامة للوقوف ضد أشكال التمييز والإقصاء الجديدة التي تفرزها الديناميكية الشعبوية، مثلما شكلت هذه المنظومة في السابق سنداً لحركات التحرر الوطني ضد الاستعمار الذي قام في تبريره الأيديولوجي على هذه القيم نفسها؟ لقد أثبتت حركة الاحتجاج العالمية الواسعة ضد قانون الهجرة الأخير الذي أصدره الرئيس الأميركي الجديد «ترامب»، وموجة المقاطعة الواسعة في الشارع الأوروبي للمنتجات والمؤسسات الإسرائيلية، أن مواجهة سياسات التمييز والكراهية الجديدة تقتضي نقل المعركة إلى داخل الشارع الغربي نفسه ومن منظور قيمه الإنسانية الكونية بدلا من الاحتماء بجدار الخصوصية وصوت الغضب العقيم. ----------------- *أكاديمي موريتاني