من المفارقات الغريبة والعجيبة في تاريخ التطور البيولوجي للإنسان، أهمية الدور الذي لعبه البعوض -أو بالأحرى طفيلي الملاريا- في تحديد مسار هذا التطور لمجموعات كبيرة من أفراد الجنس البشري. فنتيجة كون وطأة وشدة مرض الملاريا تصبح أقل حدة، وأن الوفيات الناتجة عنه تكون أقل عدداً بين المصابين بالشكل الكامل لاضطراب وراثي في الدم، يعرف بمرض الخلايا المنجلية، زاد عدد الحاملين للمرض نسبياً في المناطق المنتشر فيها البعوض، والمستوطن فيها طفيلي الملاريا، مقارنة بمناطق العالم الأخرى، مثل المناطق الاستوائية، وأفريقيا جنوب الصحراء، بالإضافة إلى بعض المناطق القبلية في الهند، والشرق الأوسط، والجزيرة العربية. ويصنف مرض الخلايا المنجلية (Sickle Cell Disease) أو فقر الدم المنجلي، أو الأنيميا المنجلية، ضمن أمراض الدم الناتجة عن اضطراب وراثي، ورثه الابن أو الابنة من كلا الأبوين معاً، واللذين لابد أن يكون كل منهما حاملاً للجينات المعيبة دون أن تظهر عليهما أي من أعراض المرض، وأحياناً ما يكون أحد الأبوين مصاباً بالمرض بشكله الكامل، والآخر حاملاً للمرض فقط. ويعتبر مرض الأنيميا المنجلية من أشهر أمراض الدم الوراثية، وأكثرها انتشاراً على الإطلاق. حيث تشير التقديرات إلى وجود 3,2 مليون مصاب حالياً حول العالم، بالإضافة إلى 43 مليوناً آخرين حاملين للجين المعيب، دون أن تظهر عليهم أعراض المرض، والغالبية العظمى منهم ليسوا على دراية بوضعهم هذا من الأساس. ويستمد المرض اسمه من شكل كرات الدم الحمراء لدى المصابين، التي بدلًا من الشكل الكروي المستدير، تتخذ شكل المنجل -أداة زراعية شائعة- بسبب اختلال في تركيب مادة الهيموجلوبين المسؤولة عن نقل الأوكسيجين للأنسجة والأعضاء، ناتج عن عيب في الجين المسؤول عن إنتاج الهيموجلوبين. وبخلاف الشكل الغريب لكريات الدم الحمراء في هذا المرض، تفقد أيضاً هذه الخلايا مرونتها، وتصاب جدرانها بالتيبس والتصلب، وهي عوامل تؤدي مجتمعة إلى صعوبة مرور وتراكم هذه الخلايا في الأوعية الدموية الدقيقة، مما يؤدي إلى انسدادها، وظهور أعراض المرض، والوفاة لدى عدد كبير من الحالات. حيث يقدر أنه في عام 2013، توفي 176 ألف شخص حول العالم بسبب مرضهم هذا، وهو ما شكل زيادة كبيرة عن وفيات عام 1990 التي بلغت حينها 113 ألف وفاة. وحتى يومنا هذا، لا يوجد علاج شافٍ من مرض الخلايا المنجلية، ويقتصر التدخل الطبي على منع تفاقم المضاعفات الصحية الخطيرة الناتجة عن المرض، أو مجرد تخفيف الأعراض، والتي غالباً ما تظهر لأول مرة في الشهر الخامس أو السادس من عمر الطفل. وإن كان هذا الوضع من شأنه أن يتغير بشكل جذري، بناء على اختراق تناقلته وسائل الإعلام الدولية مؤخراً، قام به أطباء أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية (Necker Children’s Hospital). ففي هذا الأسلوب المبتكر، قام الأطباء بإزالة نخاع العظام بالكامل -المسؤول عن إنتاج كريات الدم الحمراء المعيبة- لطفل يبلغ ثلاثة عشر عاماً، مصاب بالأنيميا المنجلية. وفي أطباق المعامل، تم عمداً تعريض خلايا النخاع للعدوى بفيروس، يحمل في مادته الوراثية النسخة الصحيحة من الجين المعيب والمسؤول عن إنتاج الخلايا المريضة. وسرعان ما انتقل الجين السليم الموجود في المادة الوراثية للفيروس إلى المادة الوراثية لنخاع عظام الطفل، ليحل محل الجين المعيب، ثم أعيد نخاع العظام المصحح وراثياً إلى جسد الطفل المريض. وما أفاد به القائمون على هذه التجربة الفريدة، وحسب النتائج التي نشرت في العدد الأخير من إحدى الدوريات الطبية المرموقة (The New England Journal Of Medicine)، أن نخاع العظام المصحح أو المعدل قد نجح فعلًا في إنتاج كرات دم حمراء سليمة، ولم يتلق الطفل المعالج خلال الخمسة عشر شهراً الماضية أي علاج يذكر، بعد أن كانت حالته قد تردت إلى درجة اضطرار الأطباء إلى استئصال طحاله، واستبدال مفصل الفخذين، مع استمرار تلقيه لنقل دم بشكل شهري. ويخطط الباحثون الآن لتكرار التجربة على مرضى آخرين، للتأكد من فعاليتها وأمنها وسلامتها، حتى يتمكنوا من الإعلان أن أنيميا الخلايا المنجلية، هذا المرض الذي لازم البشرية لعشرات ومئات الآلاف من السنين، قد تمكن الطب الحديث أخيراً من إيجاد علاج يحقق الشفاء التام منه. وإن كان هذا الأسلوب يعتبر باهظ التكلفة جداً، ويتطلب تنفيذه أحدث وأرقى المستشفيات، وأكثر المراكز البحثية تقدماً، وهو ما يجعله بعيداً عن متناول الغالبية العظمى من مرضى الخلايا المنجلية حالياً، الموجود غالبيتهم في دول أفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما يراه البعض بأنه التحدي التالي، والعقبة القادمة التي سيتمكن العلم الحديث من تخطيها، بالاعتماد على جهود العلماء وبالابتكار والأفكار الخلاقة.