منذ بعض الوقت، يبدو الأمر وكأن الحظ، أو الروح الملهمة للتاريخ، أو أحد «آلهة» الشر في الأساطير، يضع أصابعه على ميزان السياسة الغربية بغية التأثير عليه، واضعاً نصب عينيه، تحقيق ما يبدو أنه أكثر النتائج خطورة، وأقلها ترجيحاً على الإطلاق. فبدءاً من صدمة «البريكسيت»، مروراً بصعود دونالد ترامب (سأمضي إلى ما هو أكثر من ذلك في التاريخ وأضيف استقالة البابا بينديكت، ومجيء البابا فرانسيس مكانه)، بدا سيناريو الأحداث، وكأنه قد صيغ بطريقة تهدف إلى إرباك الخبراء، ووضع النجوم بدهاء في مسارات معينة لتحقيق كل النتائج المجنونة! فما شعر به الليبراليون في أوائل نوفمبر وهم يراقبون أنتوني وينر، عضو مجلس النواب السابق، وهو يتعرض للفضيحة، ويرون ترامب وهو يفوز بالمجمع الانتخابي، كان هو ذاته ما شعر به الجمهوريون -وإن بإيقاع أبطأ- عبر موسم انتخاباتهم التمهيدية، وهو: الشعور بأن ما كان يبدو مستحيلاً قد بات، على نحو ما، أمراً محتماً في النهاية. وعما قريب، سيكون أمامنا اختبار آخر لهذا النمط غير المتوقع، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في شهر أبريل المقبل، التي تقف فيها مارين لوبن رئيسة حزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف، كمرشحة محتملة للغاية للفوز بالمركز الأول في الجولة الأولى من التصويت. فيما مضى كان شيء مثل هذا يبدو كزلزال، ولكننا تجاوزنا هذه النقطة الآن، حيث بات الجميع تقريباً يقبلون بحقيقة أن لوبن ستخوض المرحلة النهائية من الانتخابات، والسؤال الوحيد الذي يطرحونه الآن هو عما إذا كانت لديها أي فرصة للفوز بتلك الانتخابات أم لا؟ ومن السهل تقديم أسباب تثبت أنها لن تفعل ذلك، منها مثلاً أن هناك سقفاً أو حداً أعلى للدعم الذي يمكن لـ«الجبهة الوطنية» أن تحصل عليه. وأن ميل التيار الرئيس من الناخبين هو عادة التصويت تكتيكياً ضد اليمين المتطرف في انتخابات الإعادة، وهو ميل ما زال قائماً إلى حد بعيد. ففي الانتخابات الإقليمية عام 2015، فشل حزب لوبن في الاستفادة من الأداء القوي في الجولة الأولى، ولم يتمكن حزبها من الفوز حتى في الدوائر التي كان هو الأقوى فيها. واليوم نجد أن معظم استطلاعات الرأي الخاصة بالجولة الثانية، تضع فرص فوز مارين لوبن فيما دون نسبة الأربعين في المئة -بصرف النظر عن حقيقة أن خصمها يتقدم ببطء في بعض الحالات في الآونة الأخيرة، ولكنه يبعد عن الصدارة دائماً بعشر نقاط كاملة. لكن القراء يتذكرون أيضاً أنهم سمعوا مثل هذه الكلمات المُطمئِنة من قبل، ومع هذا رأوا ترامب وهو يجلس في المكتب البيضاوي في النهاية. ولذلك يبدو من المعقول أن نبحث الآن عن دليل على أن فوز مارين لوبن تجري صياغته في الوقت الراهن في مكان ما من العوالم الخفية، وأن الخبراء ستنتابهم الحيرة والارتباك مرة أخرى. ومثل هذا الدليل موجود. فهناك على سبيل المثال ما حل بفرانسوا فيون، مرشح يمين الوسط، الذي بدا مؤهلاً للفوز بالجولة الثانية وقادراً على إلحاق هزيمة مستحقة بلوبن، قبل أن يجد نفسه متورطاً في فضيحة مالية مزعجة. وهناك أيضاً تلك الأحاديث التي تتردد عن فرص وحدة بين مرشحي اليسار -واليسار المتطرف المتنوعين، اللذين يمكنهما إذا ما وحدا قوتهما الحصول على بطاقة للجولة الثانية، وهو ما سيمكن لوبن من خوض الانتخابات مباشرة ضد إرث فرانسوا أولاند، الرئيس الاشتراكي الحالي الذي وصلت أرقام عدم تأييده إلى الحضيض. وبعد ذلك هناك أعمال الشغب التي اندلعت هذا الشهر في الضواحي الفرنسية في أعقاب اتهامات للشرطة باستخدام وسائل وحشية، وهو ذلك النوع من الفوضى واختلال النظام التي تبدو لوبن بسياساتها المناهضة للهجرة والداعية إلى الشدة في التعامل مع المجرمين، مؤهلة تماماً للاستفادة منه. ولكن السيناريو اتخذ منحى آخر منذ ذلك الحين. فبدلاً من فرص الوحدة التي كثر الحديث عنها في اليسار، هناك في الوقت الراهن وحدة مكتشفة حديثاً في الوسط التكنوقراطي، حيث يدّعي المرشح المستقبل إيمانويل ماكرون أنه يحظى بتأييد من المتنافس الرئاسي الدائم فرانسوا بايرو. وماكرون الشاب، بخلفيته في مجال الأعمال، وكونه في الآن ذاته من خارج السياق السياسي، يبدو شبيهاً بترامب على نحو ما، وهو يحقق في الوقت الراهن تقدماً في استطلاعات الرأي في مقابل لوبن يفوق ما يحققه المرشحون الآخرون. وإذا تمكن ماكرون -بدلاً من فيون أو أي مرشح من الجناح اليساري- من الوصول إلى الجولة الثانية، فإن طريق لوبن الصعب بالفعل سيغدو أكثر صعوبة، على الأقل من ناحية ما نراه في استطلاعات الرأي في الوقت الراهن. ولكن ماكرون يفتقر إلى الخبرة السياسية، ووسطيته تمثل نوعاً من السير على حبل مشدود. فدعمه لسياسة ميركل في فتح الباب أمام الهجرة هو تحديداً ذلك النوع من المواقف التي يمكن أن تمثل خصماً من رصيده، خصوصاً إذا ما ازدادت القلاقل أو وجه الإرهاب ضربات أخرى جديدة. أما تحذيرات لوبن المتكررة في هذا السياق فهي أكثر حكمة من التفاؤل المبتهج الذي تبديه المؤسسة السياسية السائدة. وربما يكون تشاؤم لوبن بشأن الهجرة الجماعية مبالغاً في سوداويته، ولكنه في الحقيقة قد يمثل أيضاً نوعاً من التصحيح لـ«الميركلية»، كما أنه أكثر منطقية في السياق الأوروبي من تحذيرات ترامب المبالغ فيها عن المهاجرين. ---------------- روث دوثات* كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»