اختار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أن تكون ماليزيا محطته الأولى في جولته الآسيوية الحالية، لكن هذه ليست الزيارة الأولى لعاهل سعودي إلى ماليزيا، فقد زارها من قبل الملكان فيصل وعبدالله في عامي 1970 و2006 على التوالي، الأمر الذي يبرهن على مدى اهتمام قادة المملكة بتنمية وتطوير علاقات بلادهم الثنائية مع هذا القطر الصاعد، خصوصاً وأن هذه العلاقات، منذ تأسيسها في أوائل الستينيات، تميزت بحالة من الانسجام والتوافق السياسي الذي انعكس إيجاباً على تعاونهما في مختلف الحقول. ناهيك عن أن انسجامهما شهد طفرة في الآونة الأخيرة في أعقاب انضمام ماليزيا إلى الجهود التي تقودها الرياض لإعادة الشرعية إلى اليمن، وانضمامها أيضاً إلى التحالف الإسلامي العسكري ضد الإرهاب، ومشاركتها في مناورات «رعد الشمال»، وتنديدها بالسياسات الإيرانية في المنطقة. والحقيقة أن هذه العلاقات، خلال الخمسة عقود ونيف الماضية لم تشهد أي خلافات أو أزمات إطلاقا، بل حرصت كوالالمبور من جانبها على تفادي أي حدث قد يخفض حرارة روابطها مع الرياض. ولعل أحد الأدلة في هذا السياق أنها فصلت رئيس تحرير صحيفة «نيو ستريتس تايمز» الماليزية واسعة الانتشار في 2003 لمجرد كتابته مقال انتقد فيه السلطات السعودية لأنها حسب زعمه لم تلتزم بالحصة السنوية المقررة لعدد الحجاج الماليزيين. وهكذا، يمكن القول إن الدافع من وراء زيارة العاهل السعودي إلى ماليزيا هو سياسي أملته الحرائق التي تشهدها المنطقة بسبب ممارسات الإيرانية الهوجاء، واقتصادي أملته رؤية 2030 السعودية الطموحة. وبكلام أوضح فإن هدف الزيارة هو الإضافة إلى ما هو قائم فعلاً من تعاون وتفاهم، بمعنى تعزيزه وتوسيع آفاقه وتنويع معالمه مع هذا القطر الآسيوي المهم الذي يعتبر من مؤسسي «منظمة التعاون الإسلامي» وإحدى دعاماتها الرئيسة، وأول من قاد أمانتها العامة في شخص رئيس وزرائه الأسبق «تنكو عبدالرحمن»، بل الذي كان في مقدمة من رحبوا بفكرة التضامن الإسلامي يوم أن أطلقها الفيصل في أواسط ستينيات القرن العشرين. والمعروف أن السعودية بدأت منذ عدة سنوات تولي اهتماماً خاصاً بالتعاون مع ماليزيا في عدد من المجالات الحيوية، لأكثر من سبب. من هذه الأسباب أن ماليزيا تمثل نموذجاً إسلامياً ناجحاً في التنمية والنهضة، وأن مؤسساتها وشركاتها الاقتصادية أثبتت بما تراكم لديها من تجارب أنها منافس قوي لمثيلاتها في الغرب لجهة الإنجاز المحكم لما يوكل إليها من مشاريع. أضف إلى ذلك أن هذه الشركات، بسبب انتمائها إلى دولة إسلامية، تملك ميزة العمل في نطاق المناطق المقدسة التي يحظر على غير المسلمين دخولها. وتسعى السعودية اليوم، وهي تمضي قدماً في خطة 2030 الواعدة، إلى توسعة حجم استفادتها من الخبرات الماليزية، ولاسيما في مجال التنمية البشرية وما يرتبط بها من تعليم وتدريب مهني وفني لقواها العاملة الوطنية، خصوصاً وأن ماليزيا حققت في هذا المجال نجاحات مشهودة كانت من ضمن عوامل تحولها إلى نمر آسيوي. وبطبيعة الحال هناك مجالات أخرى تتطلع المملكة إلى الاستفادة منها مثل تقنية المعلومات والرعاية الصحية والإنشاءات الحديثة. ويأتي هذا في أعقاب نجاح تعاون الجانبين في السنوات القليلة الماضية في عدد من الاستثمارات والمشروعات (مثل مشروعي بناء جامعة الفيصلية وإنشاء مدينة المال والأعمال في الرياض، ومشروع الشعيبة الضخم الخاص لتوليد الطاقة والمياه، ومشروع تحديث وتطوير أنظمة وإشارات المرور السعودية ووسائل مراقبتها). أما ماليزيا فلسان حالها يقول «سلامات داتانغ» أي أهلاً وسهلاً بالغة «الملايو»، فهي تسعى من جانبها إلى استقطاب المزيد من الاستثمارات السعودية، معتمدة في ذلك على ما تتمتع به من استقرار سياسي وبنية تحتية عصرية وقوانين استثمارية منفتحة، فضلا عن وجود العديد من الفرص المربحة فيها وامتلاكها لأدوات استثمارية تلائم المستثمرين السعوديين المحافظين مثل الصناديق ومحافظ السندات والأسهم المراعية لاشتراطات الشريعة الإسلامية. وعلى الرغم من تدفق رؤوس الأموال السعودية نحو ماليزيا في السنوات الأخيرة للاستثمار في مجالات تقليدية مثل صناعة الأغذية والأقمشة والمنتجات الكهربائية والبلاستيكية، فإنها لم تصل إلى الحجم المنشود وظل متواضعا بالمقارنة مع استثمارات الدول الأخرى في السوق الماليزية. وفي هذا السياق يُذكر أن جدة استضافت في 2006 ندوة تحت عنوان «مجالات وفرص العمل والاستثمار بين ماليزيا والمملكة»، شارك فيها نحو مائة من رجال الأعمال من الجانبين تتقدمهم وزيرة التجارة والصناعة الماليزية السابقة رفيدة عزيز. في هذه الندوة تطرقت الوزيرة إلى اهتمام بلادها بجذب رؤوس الأموال السعودية للاستثمار في الصناعات الغذائية، ولا سيما الأطعمة الحلال التي تحاول ماليزيا أن تكون مركزاً إقليمياً رئيساً لإنتاجها وتسويقها بالتعاون مع أستراليا. كما يسعى الماليزيون أيضاً إلى تعزيز روابطهم السياحية مع السعودية، خصوصاً وأن قطاع السياحة الماليزي بات يمثل مصدر جذب للأفراد والأسر السعودية، بدليل وصول عدد السياح السعوديين في 2012 مثلا إلى أكثر من 120 ألفا، أي بنسبة 50% من إجمالي السياح العرب في ذلك العام. إلى ذلك تحاول ماليزيا جذب المزيد من الطلبة السعوديين إلى جامعاتها وكلياتها التقنية التي تعتمد الإنجليزية لغة للتدريس ولا تقل مستوى عن مثيلاتها في الغرب، مستغلة في ذلك المخاوف التي نشأت عند بعضهم بعد أحداث11 سبتمبر من الالتحاق بالجامعات الغربية. ولهذا أبرمت الجامعات الماليزية جملة من اتفاقيات التعاون وتبادل الخبرات مع كبريات الجامعات السعودية. د. عبدالله المدني* *باحث ومحاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية