كان مؤتمر الأزهر عن «الحريات والمواطنة والعيش المشترك» فرصةً للقاءٍ جديد بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي. وقد صدر عنه إعلانٌ قال بالدولة المدنية والمواطنة والحريات الخاصة والعامة. واعتبر الدولة الوطنية صاحبة المسؤولية الأولى عن حماية المواطنين وأمنهم وحرياتهم ودمائهم وكراماتهم وحقوقهم. لكنه، وللمرة الأولى فيما أعلم، أقام توازياً بين المواطنة، وما يجري الحديث عنه من حقوق للأقليات وضروراتٍ حمايتها. منطق إعلان الأزهر أنّ المواطنة في الدولة المدنية الدستورية هي الحافظة لحقوق وحريات سائر المواطنين، بما في ذلك الحريات الدينية والسياسية. وفي ظل دولة المواطنة، لا مجال للحديث عن حقوق خاصة للأقليات الدينية أو الإثنية أو الجهوية، لأنّ المواطنة تمثل شراكةً كاملةً وضماناً كاملاً لسائر الأفراد والفئات الاجتماعية. وتابع إعلان الأزهر أنّ حديث الأقليات كان ينبغي أن ينتهي بنهاية عهود الاستعمار الذي كان يضرب على هذا الوتر، لكنه تجدد بسبب الإغراءات الخارجية، وبسبب تراجع تجربة الدولة الوطنية، وتعرُّض الأقليات الدينية والعرقية للضغوط والتهجير والقتل من جانب المتطرفين. والحلُّ الصحيح يتمثل في أن تستعيد الدولة الوطنية، دولة الحكم الصالح والرشيد قوتها، بحيث تحتكم إلى مبدأ المواطنة ومقتضياته الذي فيه ضمانٌ للجميع. وبذلك يصبح النضال من أجل استنقاذ الدولة الوطنية هماً مشتركاً لأنها تشكل الضمانة الوحيدة الدائمة للجميع. أما الدخول في حقوق الأقليات وتحالفاتها، فإنه يُفسد الفكرة الوطنية لأنه يؤدي إلى توزع الولاءات والتبعية للمشروعات الخارجية. لماذا عادت مسألة الأقليات للظهور؟ ذكر الإعلان ثلاثة أسباب: ضعف الدولة الوطنية، والإغراءات الخارجية للأقليات، وتعرض الأقليات للضغوط. والواقع أنّ الظاهرة تفاقمت خلال السنوات القليلة الماضية بسبب الاضطراب في سوريا والعراق وضعف الدولة في لبنان. لكنها موجودةٌ منذ عقودٍ متطاولة. فقيام كيانات مثل لبنان أو الدولة اليهودية في فلسطين، أو المنطقة الكردية، كل ذلك كان وراءه همٌّ استعماري أو خارجي بأمن الأقليات، في استقلالٍ عن أمن المجموع. وبسبب هذا الخلل في البُنى الدولتية، اشتعلت حروبٌ أهليةٌ في لبنان، وسادته دائماً شروط الغلبة: من الغلبة الفرنسية، إلى الغلبة المارونية، إلى الغلبة الفلسطينية، إلى الغلبة السورية، إلى غلبة «حزب الله» ومن ورائه إيران. فالمواطنةُ منقوصةٌ في لبنان اليوم لأن هناك طائفةً غالبةً لها حقوق خاصة، تنتقص من حقوق الآخرين وأمنهم. أما في العراق، فإنّ الصراع كان كردياً ضد الدولة العراقية، وهو منذ الغزو الأميركي متعدد الجبهات: فالأكراد لا يزالون يطالبون بالدولة المستقلة، ونشب صراعٌ بين السنة والشيعة، على السلطة، والمسيحيون والأقليات الأُخرى تشعر بعدم الأمان وسط التقاتل مع «داعش»! ويمكن أن نمضي قُدُماً في ذكر التمييز الطائفي والخروج على مبادئ المواطنة في سوريا. وهذا التمييز والافتقاد إلى العدالة هو السبب الرئيس للحرب الدائرة منذ ستة أعوام. بل ويمكن أن نذكر الإحساس العميق لدى الأقباط في مصر بعدم الأمان، بسبب اعتداءات الإرهابيين عليهم. لكنّ سوادهم الأعظم لا يزال مستكيناً للدولة الوطنية في مصر ويأمل أن تتحسن الأوضاع. بيد أنّ مسألة الأقليات وتحالفاتها ما ظهرت في مصر أو العراق أو حتى سوريا، بل في لبنان حيث يتمتع المسيحيون بكامل حقوقهم ورئيس الجمهورية منهم. وقد ظهر بينهم فريقٌ تزعمه الجنرال عون، وتحالف عام 2006 مع «حزب الله»، ودخل في ذهنية تحالف الأقليات الذي يضم المسيحيين والعلويين والشيعة، في لبنان وسوريا معاً، وتحميه إيران. والحماية هنا لا تعني الصون من الاضطهاد، فهؤلاء جميعاً ليسوا مضطهدين، وإنما المعْني تأمين السيطرة في هذين البلدين للأقليات بواسطة الهيمنة الإيرانية! عقلاء المسيحيين يقولون إنه لا يجوز إخضاع مصائر المسيحيين للتحالفات المتقلبة التي قد تؤدي التحولات السريعة إلى سقوطها، والتسبب في تهجير المسيحيين أو اضطهادهم. بل الحلُّ في العمل معاً من جانب سائر الفئات في لبنان وسوريا والعراق، من أجل إقامة دول مواطنة ليس فيها ظالم ولا مظلوم! لا جدال في أنّ الأقليات خائفة. لكن تطلَّب الحماية الخارجية لا يحل المشكلة، خاصة إذا كان هذا التطلب يستهدف استمرار سيطرة الأقلية في دولٍ لا يمكن أن تكون دولة مواطنة بهذه الشروط. ولذا فالمخرَج هو النضال معاً من أجل إقامة دول الحكم الصالح، وليس تحالف الأقليات المنقضية. ----------------- *أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت