«عندما نتذكر أننا جميعاً مجانين تختفي الأسرار وتصبح الحياة مفهومة»، قال ذلك الكاتب الأميركي الساخر «مارك توين»، وكأنه يتحدث اليوم عن اختيار ثلاثة جنرالات أميركيين محاربين سابقاً في العراق لأهم مناصب واشنطن الأمنية؛ «مستشار الأمن القومي»، ووزارتي «الدفاع» و«الداخلية». والجنون ليس في أن يختارهم الرئيس الأميركي، الذي قال مرات عدة إن «حرب العراق غلطة فظيعة»، بل الجنون في أن يُعلِّق الإعلام الليبرالي الأميركي المناهض له، الآمال على جنرالاته لكبح جماحه. ولو كان «ترامب» هو الذي حارب في العراق على طريقته «الاستراتيجية»، لحظي العراق بعشرات ماركات السلع التجارية على الأقل، وسجلها «ترامب» في الصين، والهند، والفلبين.. لإنتاج الصابون، والعطور، والمطهرات، والمشروبات.. وأهم شيء إنشاء أبراج معمارية، وملاعب «الغولف» التي يقول «ترامب» عنها: «أن تملك ملعب غولف عظيماً فذلك يمنحك قوة عظمى». و«الناس يفترضون أنني مِرجل مهيأ للانفجار، لكن أنا حقاً عندي ضغط دم منخفض»، يقول «ترامب». وتكفي مشاهدة لقطات استقباله الجنرالات لتشخيص ضغط دمه المنخفض، وعجباً أن لا ينفجر كالمرجل، فما يحدث في «البيت الأبيض» يفجر كثيرين. والجنرالات الثلاثة؛ «ماتيس» و«كيلي» و«ماكماستر»، المعينون في أعلى المناصب بواشنطن، ليسوا محاربين سابقين في العراق فحسب، بل أيضاً في فيتنام. وإذا علمنا أنهم أرادوا بحرب العراق غسل عار هزيمتهم في فيتنام، فنصدق قول ماركس (ليس الفيلسوف، بل الممثل الكوميدي «غروشو ماركس») إن «العقل العسكري كلمتان متناقضتان». و«ترامب» أعقل من جنرالاته في الموقف من حرب العراق التي قال عنها: «ناهضتها بقوة لأنها ستزعزع الشرق الأوسط»، ولو أن جنرالاته ناهضوها مثله لوفروا أضعاف «تريليون دولار» التي يبحثون عنها الآن عبثاً لإعادة بناء الهياكل الارتكازية لأميركا. وشاهدنا في الأخبار أخيراً كيف هدَّت عاصفة قوية في كاليفورنيا السدود، وفَكَّكت الجسور، وغمرت أمطار أعاصيرها الشوارع الخارجية، وجرفت الطوفانات منازل على سفوح التلال. وأنا من عائلة عسكريين عراقيين على مدى أجيال، ومتأكد أنَّ أياً منهم كان سينتحر لو هُزم في أطول حرب في القرن المنصرم، وأطول حرب في مطلع القرن الحالي، وقَتَل خلالها وشرّدَ ملايين الأبرياء الذين لم يعتدوا على بلده. والجنرال «ماكماستر» المعيَّن «مستشاراً للأمن القومي»، والذي يسمونه «المحارب المفكر»، لم ينتحر، بل ألَّف كتاباً عنوانه «التقصير في الواجب»، قال فيه إن الهزيمة لم تحدث في فيتنام، بل في واشنطن. وتمنيتُ لو يجيبنا على السؤال: أين حدثت هزيمة العراق، والتي يشيدون بإنجازاته فيها خلال خدمته عام 2005، حيث استعاد مدينة «تلعفر» من يد المقاومة، واعتُمدت عمليته في «دليل عقيدة مواجهة المتمردين» الذي أعدّه «الجنرال بترايوس»؟ وعندما نعلم أن أموالاً طائلة أُهدرت آنذاك على ما سُميّ «الصحوات»، وأنّ مسلسل الحروب مستمر في العراق، والمنطقة، ندرك ما لم يدركه الجنرالات، وهو أن «المشاكل الأساسية التي يواجهها العالم اليوم لا تتأثر بالحل العسكري». قال ذلك الرئيس «جون كينيدي» قبل نصف قرن. وفي تلميع صور جنرالات الحرب، قال الرئيس الأميركي «ترومان» إن «القوات المسلحة الأميركية تملك آلة دعاية مساوية لستالين». وكطالب جامعي في روسيا، بعد سقوط الستالينية وانهيار نظام عبادة الفرد، أقول إنه يظلم ستالين والروس بكل معنى. ولو كنتُ من «النخبة العولمية» (الغلوبالية)، كما يسميها «ترامب»، وفيهم للأسف كُتاب عرب متغربون، لاخترتُ بدلاً من التركيز فقير الخيال على «ترامب»، مادة غزيرة لمسرحيات وأفلام هزلية عن الجنرالات الأميركيين وجنرالات «الناتو»، أبطال حروب حمقاء ظالمة هدمت بلداناً عربية وإسلامية على رؤوس أهاليها المساكين. ------------------------- *مستشار في العلوم والتكنولوجيا