اجتمع عدد من الوزراء مسؤولي الري والطاقة والزراعة في دار السلام بتنزانيا في يوم يعرف بـ«يوم النيل»، يوم 22 فبراير الحالي، وهو ذكرى توقيع مبادرة حوض النيل 1999، بل واتخذوا شعاراً للاحتفال «النيل المشترك..مصدر الطاقة والغذاء والماء للجميع»، وفهمنا من الإعلانات عن ذلك في صحف شرقي أفريقيا، أنه يوم تقليدي يحُتفل به كل عام في عاصمة أو أخرى من دول الحوض، وإنْ كنا لم نسمع بذلك في القاهرة منذ بضع سنين، وعلى الأقل منذ قاطعتها مصر بعد خلافات من عام 2010 حول اتفاقية إطار لتقسيم مياه النيل. أما في هذا العام، فقد احتفلت اللجنة الأفريقية، بل ومجلس نقابة المهندسين في مصر بهذا اليوم، بما بدا لي لأول مرة، وبحضور عدد من ممثلي الوزارات المعنية، وبعض السفراء الأفارقة الذين جاؤوا احتفاء بعودة ذاكرة مصر حول النيل، وإنْ كنت لاحظت غياب التمثيل الإثيوبي والسوداني بوجه خاص إلا أن جنوب السودان حرص على التمثيل، كما قدرنا حضور مصر نفسها في دار السلام. رأيت بشرى خير في اهتمام عنصر مهم وقوي من عناصر المجتمع المدني مثل نقابة المهندسين المصرية، فهذا يرسل إشارة اهتمام شعب مصر بالمعالجة العلمية والمهنية لهذا الموضوع الشائك، بل وعبرت في الاجتماع عن طرافة الإحساس بأنه أصبح للنيل عيدان في مصر، أحدهما «عيد وفاء النيل» في أغسطس، في عز الفيضان القادم من الهضبة الشرقية، وها هو الآخر مع يوم احتفاء أهل الهضبة الاستوائية على بحيرة فيكتوريا...في ذكرى مبادرة حوض النيل في شتاء فبراير. قلت إن ذلك مرتبط بتطور مهم في المفاهيم أيضاً، أو لعله يكون كذلك، فقد كان الفكر المصري يعتمد مفهوم «وادي النيل» فقط إشارة إلى مصر والسودان. وربما أوغندا حتى منتصف القرن العشرين، ولكننا منذ أواخر القرن، قفزنا إلى مفهوم «حوض النيل» ليضم الإحدى عشرة دولة، ومعنى ذلك أننا نُقبل على مشاركة شعبية أوسع لتأكيد هذه الهوية، التي لا نعدم فيها من يقول بالصلة القديمة مع الفراعنة أو النوبة مثل نطاق حضارة «كوش»، أو «الدينكا»، وحتى «الباجندة»، و«الماساي»، و«التوتسي»، مما يمكن أن يشكل تفاعلاً شعبياً واسعاً وعميقاً، يدفع الدراسات لاكتشاف ملامح الهوية بين أبناء الحوض. وقد رأيت في احتفال نقابة قوية في مصر بهذا الشكل طرحاً لمفهوم آخر جديد في واقع سياسات الدول وعلاقاتها يذكر في العلوم السياسية حول «مقرطة العلاقات الخارجية» لدول أو مجموعة دول، حيث تصبح المشاركة الشعبية حتمية لدعم محاولات الاقتراب، إلا إذا قامت الإدارات البيروقراطية أو الأوتوقراطية بتعويق هذا التطور الشعبي للعلاقات البنيوية، أي العلاقات القائمة على «التنمية المتكاملة» أو التنمية عبر الشراكة الشعبية، مما جعل المصطلح السياسي الحالي في وصف الدولة، لا بالحديثة أو المتخلفة أو النامية، وإنما يقول معظم أصدقاؤنا في العلوم السياسية الآن «بالدولة التنموية الديمقراطية». قلت ذلك وأنا لا أرى الأفق مفتوحاً عن سعة لهذه المفاهيم في دول حوض النيل. فها هي نفس مناسبة «يوم النيل» في منابعه البعيدة جنوبا بتنزانيا وشمالا في مصر، ترى من يعاند هذه الرغبة الطيبة، فقرأنا عن احتفال آخر بإثيوبيا في نفس الوقت ممتد من 26 فبراير إلى 2 مارس «بذكرى وضع حجر الأساس لسد النهضة» متجاهلة أية اشارة لـ«يوم النيل» وغير متحرجة مما تعلنه عن جمع حوالى المليار دولار فقط من تبرعات الأهالي لبناء السد خلال ست سنوات، وهي تعلم أن الشعوب تجمع عشرات أضعاف ذلك لمناسبات مماثلة. وحتى إثيوبيا لابد أن تقدر مشاكل نابعة من موجات الجفاف أو الفيضان المفاجئ، حيث أعلن الأستاذ (نتابالا) المدير التنفيذي لمبادرة حوض النيل أن عام 2016، كان أسخن جواً خلال العشرين عاماً الأخيرة، وهذا مؤثر قوي في الاقليم يجعل قضية المناخ هي الأولى بالرعاية. وقد اهتمت صحف شرق أفريقيا وخاصة في تنزانيا بأخبار المكايدة، بنقل تصريحات مثيرة بدورها للفتنة، فالسيد «نتابالا» يعلن أنهم يكادون أن ينتهوا من إعداد استراتيجية العشر سنوات لعمل المبادرة عقب انتهائهم حالياً من تقييم عمل سبعة عشر عاماً في إطارها، مع التركيز على إدارة المياه ومدى «توفرها لكل دولة»...وهذا المعنى الوارد والملفت لتسمية احتفال «يوم النيل» بشعار «النيل المشترك: مصادر الطاقة والغذاء والماء للجميع» يثير التساؤل عن معنى التلميح هنا«لكل دولة»، وللجميع.. هل هي إشارة لانفراد مصر بالمصب؟ أم دعم لطلب مصر بالشراكة العادلة؟ والملفت أيضاً أن المتحدث أشار إلى أن مصر أكدت وجودها في المبادرة التي يجري وضع استراتيجية عشرية لها؟ فهل صحيح أن مصر مازالت في «المبادرة» وأنها بالتالي حضرت وضع الاستراتيجية العشرية. وهو ما لم نسمع به! لكن السيدة «سامية حسن صالوحو» نائبة رئيس الجمهورية التنزانية، تخاطب الوزراء المجتمعين بدار السلام في افتتاح احتفال «يوم النيل» بالقول إن ثمة خلافات، بل صراعات حول المطالب والمفاهيم والثقافة، بين دول حوض النيل! إذن نحن أمام خلافات حول «المفاهيم والثقافة» فضلاً عن تأكيد الحق في المياه للجميع. فهل يساعد المقتربون من دول الخلاف «المفاهيمي»، والحق في المياه، على تفاهم أفضل بما يقدمونه من مساعدات أو استثمارات؟ أم تراهم يساعدون في المكايدات؟! وهل يواصل المجتمع المدني المصري، والسوداني، وعلى طول حوض النيل، بتعميق المفاهيم والتفاعلات وتبسيط مفهوم المصالح والمشاركة، أو التنمية الشاملة المتكاملة؟ بذلك يصير النيل مصدرا للخير لا للفتن. حلمي شعراوي* *مدير مركز الدراسات العربية والأفريقية- القاهرة